كما ظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على سطح الأحداث في الشرق الأوسط٬ من خلال تدخله في سوريا بشكل عسكري فجأة٬ ها نحن نراه ينطلق بعيدا مرة فجائية أخرى٬ محلقا بعيدا عن أرجاء المنطقة لوجستيا على الأقل٬ في الوقت الحاضر.
غير أن علامة الاستفهام تبقى حاضرة: «هل تغيرت ملامح ومعالم الشرق الأوسط بعد الإقدام الروسي الأخير؟
بوتين يريد أن يثبت أن هناك بالفعل ما يشبه نظاما عالميا جديدا يتخلق في رحم الأحداث الدولية٬ لا سيما إذا صدقنا ما قاله كارل ماركس ذات مرة من أن: «العنف قابلة التاريخ٬ فمن رحمه تولد الإمبراطوريات الجديدة٬ وعلى دربه تضمحل القديمة منها».
ولعله من المشاهد المؤكد تغيرها في المنطقة٬ ما يتصل بمستقبل الحركات المتطرفة من «القاعدة» إلى «داعش»٬ ومن لّف لفهما٬ وهنا لا بد لنا من التوقف مليا أمام نشوء وارتقاء تلك الجماعات٬ وحتما سنجد هناك علاقة ما ظاهرة أو باطنة بين تلك الاتجاهات التدميرية٬ وبين خطوط الإمبراطورية التي تلاعبت ولا تزال٬ بما يعرف بالإسلام السياسي لتحقيق مآربها وإدراك مشاربها حول العالم.
حدث ذلك في أفغانستان في ثمانينات القرن المنصرم٬ وها نحن نراه منذ أوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين٬ فقد تلاعبت واشنطن بالقوى الإسلامية في الشرق الأوسط٬ لتحقيق هدف أبعد يتصل باستراتيجية الاستدارة نحو آسيا٬ أي إلهاء روسيا والصين في إطار من حروب الجيل الرابع٬ وبمعنى إدخال شعوب تلك المنطقة الآسيوية في صراعات أهلية ذات مسحة دوغمائية٬ تفكك وتفخخ ما هو كائن٬ وتوقظ ما هو كامن في النفوس من خلافات عقائدية وعرقية بين شعوب عاشت في إطار من الاتفاق٬ وإن لم نقل الاندماج أو الذوبان الكامل لقرون طوال.
وعند الكثير من المراقبين السياسيين يقين بأن روسيا٬ ومن خلال عملياتها الحربية في سوريا٬ قد أثرت على القوة القتالية لتنظيم داعش٬ وكذلك بعض التنظيمات الأخرى٬ بعد الآلاف من الغارات الجوية التي استهدفت مواقعها٬ وربما ما ألحقته الغارات الروسية من خسائر بـ«داعش»٬ وبعض الفصائل الأخرى وحتى المعتدلة منها٬ كان غير متوقع.. ولكن السؤال هو: هل تخلى بوتين عن الأسد؟
والشاهد أنه مع تخلي إدارة أوباما الواضح والفاضح عن المنطقة للروس٬ ملا الأخيرون الفراغ.
قبل عدة أيام كان الرئيس بوتين يشير إلى أن قوات بلاده يمكنها أن تعود إلى سوريا خلال بضع ساعات وليس أكثر٬ وهذه إشارة لها دلالاتها الرمزية لا فيما يخص سوريا بمفردها بل بعموم الشرق الأوسط٬ وهو ما أشارت إليه كذلك ماريا زاخاروفا المتحدثة باسم الخارجية الروسية٬ والتي أوضحت أن سحب الجزء الرئيسي من القوات الروسية في سوريا٬ لن يضعف بشار الأسد.
يدرك الروس تمام الإدراك أن زمن الهيمنة الأميركية على الشرق الأوسط٬ كما كان الحال من قبل٬ قد تلاشى٬ باعتراف أساطين التنظير السياسي للسياسات الأميركية الخارجية٬ وفي المقدمة منهم مارتن أنديك الذي كتب في السادس عشر من مارس (آذار) الحالي عبر مجلة «أتلانتيك» ذائعة الصيت٬ مقالا يقر فيه بحقيقة الأمر٬ ويدركون أيضا أن كثيرا من الأعين في العالم العربي باتت تتطلع من جديد إلى إعادة ضبط المسافات الاستراتيجية في السياسات الدولية٬ لا اللعب على المتناقضات من موسكو إلى واشنطن أو العكس.
في هذا الإطار لا بد أن تكون خطوات روسيا رسميا محسوبة بدقة٬ ذلك أنه إذا غسلت موسكو يديها من الملف السوري ـ وهذا أمر مستبعد في الحال والاستقبال ـ
فربما سوف ينظر إليها٬ مثلما ينظر الآن إلى واشنطن٬ وربما أن واشنطن نفسها ستستفيد منه من جديد.
السؤال قبل الانصراف: «هل سنرى لروسيا أدوارا جديدة في الشرق الأوسط٬ بعد ما شاهدناه في سوريا؟
لا تزال الأوضاع مضطربة٬ ولا يزال الوقت مبكرا٬ على القول بنهاية الأزمة السورية٬ وهناك جراح ثخينة أخرى لا تزال مفتوحة في الجسد العربي٬ منها التدهور في الأوضاع الليبية٬ وحالة اللااستقرار السياسي٬ عطفا على إشكالية الطاقة والنفط تحديدا٬ والتي تتشارك فيها موسكو الاهتمامات مع بقية العواصم العربية٬ وجميع ما تقدم يؤكد أن عودة روسيا لـ«الشرق الأوسط»٬ تتجاوز الانسحاب الشكلي الأخير٬ والذي لا يعدو كونه مناورة جديدة مع واشنطن.