IMLebanon

الشرق الأوسط وروسيا: الهيدروكربونات والسياسة

 

 

رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو

 

لا حاجة لإثبات العلاقة الوثيقة بين سوقَي النفط والغاز وصناعتيهما من جهة، والسياسة من جهة أخرى. هذه الحقيقة معروفة للجميع. وبإسقاطها على الشرق الأوسط وروسيا تصبح أكثر صحة. ومفهوم لماذا. منذ فترة قريبة نشر مدير كبرى الشركات النفطية الروسية «روس نفط» إيغور سيتشين خريطة رمزية جمع فيها في كتلة واحدة 3 مناطق منتجة للنفط والغاز بعضها يحاذي بعضاً؛ هي: روسيا وبحر قزوين والشرق الأوسط. انظروا إلى الخريطة؛ هذا مثير للإعجاب. وإلى جانب هذا المخزون العالمي الثلاثي لموارد الطاقة، تتموضع منطقتان كبيرتان للمستهلكين؛ منطقة آسيا في الشرق والجنوب الشرقي، ومنطقة أوروبا في الغرب والشمال الغربي.

بالطبع في هذه التشكيلة لم يؤخذ في عين الاعتبار اللاعب الكبير من خلف المحيط؛ أي الولايات المتحدة (إلى جانب كندا وعدد من دول أميركا اللاتينية المصدرة للهيدروكربونات)، حيث تحولت الولايات المتحدة اليوم إلى واحد من المنتجين الثلاثة الأساسيين للنفط بالإضافة إلى روسيا والمملكة العربية السعودية، وتحولت أيضاً إلى أكبر منتج للغاز في العالم (لقد أصبحت الولايات المتحدة اليوم تستخرج الغاز أكثر من روسيا أو إيران أو قطر). الإنتاج لا يزال ينمو، وليس في الواقع من قيود تحد من هذا النمو. ولا يزال الأميركيون يستهلكون ما ينتجون، ولكن على الأغلب ستأتي اللحظة التي ستصبح فيها الولايات المتحدة مصدرة للهيدروكربونات، وحينها سيبرز السؤال التالي: هل وكيف سيؤثر هذا على السوق العالمية وعلى الوضع في الشرق الأوسط وبشكل عام على الجيوسياسة العالمية؟ السيناريوهات المقترحة كثيرة للغاية. لكن كما تظهر الأحداث الأخيرة في العالم فإن مفاجآتها أحياناً مذهلة للغاية. التنبؤ اليوم من أكثر الحرف المشوبة بالمخاطرة التي لا تلقى الحمد، مع ذلك يمكن الإجابة عن هذا السؤال باختصار وبثقة مائة في المائة: نعم سيؤثر. فإذا فرضنا أن الولايات المتحدة لم تعد بحاجة إلى نفط الشرق الأوسط، فلن يتراجع اهتمامها بهذه المنطقة نظراً للحاجات الجيوسياسية.

لا تزال غير واضحة آفاق تشغيل الحقول الضخمة التي تم الكشف عنها منذ فترة ليست بالبعيدة في الحوض الشامي للنفط والغاز في جرف البحر المتوسط. التقييمات الحالية لاحتياطات الغاز فيها يختلف بعضها عن بعض لدرجة أنني لا أود عرضها، لكن من الناحية الجيوسياسية، يمكن فرضياً تصديره في المستقبل رغم ارتفاع تكلفته. لن يكون لهذا تأثير كبير على السوق العالمية، غير أنه بإمكانه أن يوفر الحاجات الخاصة من موارد الطاقة بالنسبة لبعض دول الشرق الأوسط. من بين هذه الدول المرشحة في هذا الصدد: قبرص، وإسرائيل، ولبنان، وتركيا، واليونان. وقد اتخذت إسرائيل وقبرص خطوات عملية نحو تشغيل هذه الحقول.

أما في ما يتعلق بالنفط، فإن أهم الإنجازات بالنسبة لروسيا في هذا المجال في الفترة الأخيرة هي الاتفاقات التي تم التوصل إليها مع المملكة العربية السعودية حول تقليص الإنتاج؛ حيث إن موسكو منذ فترة ليست بالبعيدة كانت ترفض ذلك بشكل قاطع. فهي لمست اليوم جانبين إيجابيين من هذه الخطوة؛ فقد حققت نقلة نوعية في تطوير علاقاتها مع المملكة العربية السعودية، واستطاعت بالتعاون مع الرياض تحقيق ارتفاع ملموس في الأسعار العالمية للنفط. بما أن الميزانية الروسية أقرت على سعر 50 دولاراً للبرميل، فإن السعر الحالي 75 دولاراً للبرميل جيد جداً بالنسبة للاقتصاد الروسي. وهذا له أهمية خاصة في ظروف العقوبات المفروضة. على الأغلب أن التعاون الروسي – السعودي في هذا المجال سيتواصل. بالطبع لا أحد يستطيع ضمان استقرار ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية، لكن الأكيد أن الطلب سيحافظ على مستواه. بالمناسبة؛ الفكرة المتداولة عن ارتباط الاقتصاد الروسي بشكل كامل بأسعار موارد الطاقة وعن إمكانية ضم هذا البلد إلى مجموعة الدول النفطية، فكرة مغلوطة. الاقتصاد الروسي يزداد تنوعاً وأصبح أقل ارتباطاً بالاستيراد، وهذا بفضل سياسة استبدال الاستيراد، وهو ما اعترف به عدد كبير من الخبراء الغربيين، حيث تتطور في روسيا مجموعة كاملة من صناعات التقنيات العالية. لقد فتحت إمكانات جديدة للتعاون مع دول الشرق الأوسط.

استطاعت روسيا، وعلى الرغم من العقوبات الغربية، ليس فقط أن تحافظ على موقع شركة «غازبروم» المهيمنة في السوق العالمية، بل وطورت بناء خطوط جديدة لأنابيب الغاز في 3 اتجاهات؛ الغرب (أوروبا)، والجنوب (الشرق الأوسط)، والشرق الأقصى. أضحت الاستراتيجية الروسية في السنوات الأخيرة في الجهة الشرق أوسطية مبنية في الوقت نفسه كما على تفعيل التعاون مع المنتجين الرئيسيين للغاز الطبيعي؛ إيران وقطر، كذلك على زيادة حجم ترانزيت هذا الوقود عبر تركيا.

تبدو الحجة الأساسية لمنتقدي «السيل الشمالي – 2»، الذي يجب أن يمر عبر قاع بحر البلطيق إلى مدينة لوبمن بالقرب من الحدود الألمانية مع بولندا وبموازاة الفرع الأول، غير مقنعة؛ وكأن بناء فرع جديد لأنبوب الغاز إلى ألمانيا سيزيد من ارتباط هذا البلد بروسيا (وغيره من الدول الأوروبية) التي من دون ذلك تلبي 40 في المائة من حاجاتها للغاز على حساب الواردات الروسية. وكأن موسكو بإمكانها في حال الضرورة تهديد الأوروبيين «بإغلاق الصنبور». بيد أنه في واقع الحال ارتباط موسكو بألمانيا وبالدول الأوروبية الأخرى التي تشتري الغاز منها أكبر بكثير. والسبب واضح؛ أولاً لأن أنبوب الغاز يجب أن يعمل ويعود بالدخل على موسكو التي هي بحاجة ماسة له، إذ تستطيع ألمانيا في حال الضرورة القصوى أن تستبدل بغاز الأنابيب الروسي الغاز المسال الذي يورده الشركاء الآخرون مع أنه سيكون أغلى في السعر (هذا في حال – لا سمح الله – فكرت موسكو بقطع صنبور الغاز). أما بالنسبة لشركة «غازبروم» التي تعد شركة «السيل الشمالي – 2» فرعاً لها، فسيكون في غاية الصعوبة عليها إيجاد البديل. وفي ما يتعلق باستخدام إمدادات الغاز أداةً للضغط السياسي على ألمانيا، فإن موسكو لم تستخدم هذا الأسلوب مطلقاً (حتى في ظروف انضمام برلين إلى العقوبات ضد روسيا)، فمن غير المفهوم لماذا ستستخدم هذا الأسلوب مستقبلاً. الألمان يرون في روسيا شريكاً موثوقاً به تماماً. عدد الأنصار المؤثرين لصالح توسيع الواردات من روسيا إلى ألمانيا لا يزال كبيراً. بالمناسبة، فإن رئيس شركة «السيل الشمالي – 2» هو المستشار السابق قبل أنجيلا ميركل لألمانيا غيرهارد شرودر. وعلى ما يبدو، فإن الرئيس دونالد ترمب لم يتمكن في المحادثات التي جرت مع السيدة ميركل خلال زيارتها قبل أيام إلى الولايات المتحدة من إلزامها بالامتناع عن دعم هذا المشروع.

المشروع الآخر؛ «السيل التركي» هو خط أنابيب مباشر من روسيا إلى تركيا عبر قاع البحر الأسود ومن ثم إلى الحدود التركية مع الدول المجاورة. هذا الخط سيكون له فرعان كل منهما بقدرة 15.75 مليار متر مكعب من الغاز. عبر الفرع الأول سينقل الغاز إلى السوق التركية، أما عبر الفرع الثاني فإلى المستهلكين من دول أوروبا الجنوبية والجنوبية الشرقية. الأعمال في البحر تجري في الوقت نفسه على الفرعين. في الوقت الحالي تم مد 55 في المائة من الطول الإجمالي للخط من الجزء البحري، وهذا يشكل مد الفرع الأول التي يجب أن يسلم في بداية مايو (أيار) الحالي. عملية المد يقوم بها فرع شركة «غازبروم» South Stream Transport B.V.. حسب رأي نائب رئيس الإدارة ألكسندر ميدفيديف، فإن إدارة الشركة لا ترى أي مخاطر تمنع إنجاز هذا المشروع. سيعزز هذا المشروع من التعاون بين روسيا وتركيا في مجال الطاقة، الذي بدوره سيؤثر على علاقاتهما الثنائية في المجال السياسي وعلى الوضع في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام.

السؤال الأبدي الذي يطرح نفسه حول موارد النفط والغاز: هل هي بركة أم لعنة؟ أم الاثنان معاً؟ لكن بما أن البشرية لن تستطيع في المستقبل القريب العيش من دون الهيدروكربونات، فسيبقى النفط والغاز بالنسبة للشرق الأوسط ولروسيا أيضاً واحداً من أهم العوامل المؤثرة على السياسة.

– خاص بـ«الشرق الأوسط»