IMLebanon

شرق أوسط ما بعد تسويات كوبلاند-كيسينجر

 

كان لمرحلة نهايات ستينات وبدايات سبعينات القرن الماضي الأثر الأكبر على أحداث منطقة الشرق الأوسط، خاصةً العربية منها، منذ ذلك الوقت وحتى زمننا هذا، حيث صمدت التسويات التي وضعها حينها الثنائي مايلز كوبلاند وهنري كيسينجر بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة والنظام السوري القمعي، الذي حكم سوريا حوالى 54 سنة بقبضةٍ حديدية وعقلٍ إجرامي، مُشكّلاً العمود الفقري لهذه التوازنات. فقد قام المفكر الاستراتيجي مايلز كوبلاند (عضو مؤسس لوكالة المخابرات المركزية الأميركية وأكثر الملحقين في السفارات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط معاصرةً مع قيادييها وخاصةً مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وفهماً لمشاكلها وعقدها ومفاصلها ونقاط ضعفها وقوتها) قام بوضع تفاهمات نفوذية، اكتملت صورتها مع استلام المفكر والعريق في شبك السياسات الاستراتيجية الدبلوماسي هنري كيسينجر ملف الشرق الأوسط، وساعدته على ذلك العلاقة الوطيدة التي جمعته مع الرئيس السوري، حافظ الأسد، الذي فهم بدوره عمق استراتيجيات الإدارات الأميركية المتتالية، فتناغم مع معظمها، ما مكّنه من السيطرة الكاملة والمريحة على الداخل السوري، وحماه من تداعيات وانتفاضات الفئات السورية المعارضة له، ومكّنه من سلْب القضية الفلسطينية من أصحابها، ومن حكْم لبنان بالقضاء على الأطراف السياديين فيه. ولكن مع اندلاع الثورة السورية في سنة 2011 خسِرَ هذا النظام قيادة محور المُمانعة، فتحوّلت سوريا إلى ساحة داعمة ومُسهِّلة لأعمال القيادة الجديدة للمحور في طهران. أمّا مع سقوطه الكامل في كانون الأول 2024 فانتهت ترتيبات كوبلاند-كيسينجر، لتدخل المنطقة في مرحلة جديدة من المُبكر إعطاؤها تسميةً الآن.

 

 

 

في كتابه “لعبة الأمم” الذي أصدره سنة 1969، ذكر الكاتب مايلز كوبلاند أنه أرسل للإدارة الأميركية حينها عدداً من البنود، اعتبرها وصايا ينصح من خلالها إدارته بالأخذ بها كي تنجح في توجيه النظام السوري، كائناً من كان على رأسه، وأهم تلك الشروط نصّت على التالي: “إن الشرط اللازم لبقاء أي حاكم أو سلطة في سوريا واستمرار تقدّمها في مجال البناء والإصلاح هو الظهور بمظهر يستحيل معه القول إنه من صنيعتنا، والتصرّف بطريقة لا تكشف الانسجام مع ميولنا وأذواقنا”.

 

 

 

قرأ حافظ الأسد هذه الوصايا خلال الاجتماعات التي جمعته مع كيسينجر وفهم الرؤية التحكّمية للإدارات الأميركية، فتعاون مع المعادلات والتوازنات الذكية، ونال بحنكته دور العامل والمُحرّك والمُعدّل على الخطط الموضوعة لدول وقضايا المنطقة، وكسب ثقة واحترام الدبلوماسي العريق هنري كيسينجر، الذي فضّل اللعب من تحت الطاولة مع الأسد، والذي اعتبر أن لبنان هو الساحة المثالية لتحقيق المؤامرات وليس ضد ذاته فقط بل ضد العالم العربي بأكمله. وهذا ما قام به الأسد، ففجّر الساحة اللبنانية، للاستفادة من نارها، ودخل إليها مستعيناً بشعار دعم القضية الفلسطينية التي كانت قد نالت من سنة 1968 حق العمل المُسلّح على الأراضي اللبنانية من خلال اتفاقية القاهرة، ومن ثم قبض على القرارين الفلسطيني واللبناني، وبعد ذلك ساوم على القضيتين معاً.

 

 

 

إنه شرق أوسط جديد بدأت ملامحه تظهر مع حرب إنهاء حركة حماس العسكرية وقدرات “حزب اللّه” العسكرية الاستراتيجية ومع إسقاط النظام السوري، شرق أوسط يُطلقه الرئيس الأميركي المُنتخب دونالد ترامب تحت شعار “السلام” مُدعّماً برؤية اقتصادية واستثمارية بدأت خطواتها الأولى تتكشّف على أراضي دول الخليج العربي، وستلتحق بها دول عربية أخرى شهدت تحوّلات كبيرة في قياداتها، كسوريا، فهل يستطيع قادة لبنان المتحرّرون من قبضة النظام الثوري الإيراني فهمها والالتحاق بها أيضاً؟؟؟

 

قوة الدول مهما صغرت أو كبر حجمها تتمثّل بالدور الإيجابي الذي تستطيع أن تلعبه في تحقيق مصالح شعوبها وتأمين السلام لها، فلو لم يقع لبنان فريسة ترتيبات التوازنات التي رُسمت في أواخر ستينات القرن الماضي لكان حافظَ على استقراره السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي ولكان اليوم يتمتّع بأعلى مستويات الدخل القومي وبأكثر نسب العدالة الاجتماعية. الفرصة متاحة مجدّداً للعودة عن الخطأ، فعسى من سبّب الهلاك للبنان بمشاريعه الأيديولوجية أن يتّعظ ممّا حدث في الخمسين سنة التي مرّت، وأن يُدرك أن المنطقة مُقبلة على الازدهار، ومن أكثر الدول قدرةً على اللحاق بدرب التطور، هو لبنان.