IMLebanon

الشرق الأوسط وإيران والسعودية وروسيا

كتب ديفيد غاردنر، وهو من المعلقين والبحاثة المرموقين في “الفايننشال تايمس” في عدد السبت – الاحد 16 – 17 كانون الثاني مقالاً مطولاً عن سوريا ونظريات التآمر المنتشرة في منطقتنا.

هنالك أمران يلفتان النظر في المقال. فهو يشير أولاً الى ان بداية البحث في اتفاق سايكس – بيكو، الذي هدف الى تفتيت المناطق العربية التي كانت خاضعة للحكم العثماني الى بلدان مختلفة، والذي وقّع عام 1916 كان بين فرنسا وبريطانيا وروسيا. ومن المعلوم ان روسيا القيصرية كانت قد حصلت كما فرنسا على تنازلات من السلطنة العثمانية شملت حق رعاية الطائفة الارثوذكسية في فلسطين وسوريا ولبنان.

ابعدت الثورة الروسية الاهتمام الروسي عن تقاسم النفوذ في المنطقة الذي أقر عام 1920 وأوكل شؤون لبنان وسوريا الى فرنسا، وشؤون العراق والاردن الى بريطانيا، وكانت هذه التقسيمات الاعتباطية والمصلحية المؤامرة الاساسية لتشكيل دول عربية ستغلب عليها النزاعات الطائفية مستقبلاً.

والأمر الثاني والأوسع تأثيراً وخصوصاً في الزمن الحاضر أعد له خبيران من فريق المحافظين الجدد في الولايات المتحدة دوغلاس فايث وريتشارد بيرل للذان وضعا تصورًا لتفتيت المنطقة وتقوية النزاعات بين مواطني الدول المعنية، وكان ذلك عام 1990 في عهد الرئيس بوش الأب وكلا الخبيرين كان من أعضاء فريق المحافظين الجدد وميولهما صهيونية.

ويقول ديفيد غاردنر إن هذا التصوّر وُضع وقُدّم إلى الرئيس كلينتون عام 1996، لكن معلومات متوافرة لدينا عن حديث للرئيس بوش الاب تؤكد انه تسلّم المذكرة عام 1990 وطلب من واضعيها سحبها من التداول، وكذلك فعل كلينتون، لكن الرئيس بوش الابن تبنّى توصياتها، وكان المحافظون الجدد قد اصبحوا عماد ادارته.

ومذكرة الخبيرين التي قدمت الى كلينتون عام 1996 انجزت بالتعاون مع نتنياهو الذي كان بات رئيسًا لوزراء اسرائيل وهدفت في المقام الاول الى تعزيز وضع اسرائيل وصورت النتيجة كأنها لمصلحة الولايات المتحدة. عنوان المذكرة بالإنكليزية بحد ذاته كان يدعو الى التفكير والقلق وهو Clean Break-A New Strategy For Saving the Realm، أي بداية جديدة – استراتيجية حديثة لانقاذ السلطة.

للتذكير نشير الى ان هؤلاء كانوا ولا يزالون يعتبرون ان الولايات المتحدة هي الإمبراطورية الرومانية الجديدة، وان ما يسمى تفاهم واشنطن Washington Consensus يجب ان يسود العلاقات الدولية، وهذا التفاهم مغزاه الرئيسي ان كل من ليس معنا (الولايات المتحدة) هو ضدنا، وان القوة هي التي تفرض معادلة التفاهم الذي يفترض سيادة الدولار والنظام الاميركي الاقتصادي والمالي. وكانت المذكرة من أسباب حرب الولايات المتحدة بمساندة بريطانيا على العراق والغاء دور صدام حسين وقيادة السنّة للعراق.

وسبقت هذه المذكرة الحرب العراقية – الايرانية بين صيف 1980 وصيف 1988 والتي اسهمت في تغذية الخلاف السني – الشيعي، ومن بعد احتلال الاميركيين للعراق واطاحة صدام حسين، أفسح في مجال التدخل الايراني في العراق، وامتداد هذا التدخل الى سوريا ولبنان. وكان الرئيس حافظ الاسد ابتعد عن مناصرة العراق في الحرب، واتخذ موقفًا مؤيدًا لايران التي وفرت لسوريا شحنات من النفط دون مقابل لفترة سبع سنوات.

اليوم يتركّز الخلاف السني – الشيعي بين ايران والسعودية ومن أهم أسبابه التطورات الميدانية في الحرب الدائرة في العراق وفي سوريا. وهذه الحرب تعني السعودية وتركيا في المقام الاول لان للبلدين حدوداً مشتركة ومصالح عميقة مع سوريا والعراق في آن واحد.

اذا نظرنا الى كل من السعودية وايران والاحتدام الحاصل بين البلدين، نجد ان انغماسهما في النزاعين السوري واليمني يستهلك جزءًا غير بسيط من طاقتهما الوافرة لتحقيق النمو والازدهار، ليس فقط في بلديهما بل في المنطقة العربية ككل. ونجد ان ما يحدث يلغي مفاعيل سايكس – بيكو، علماً بان روسيا القيصرية التي انسحبت من صياغة الاتفاق ايام القيصر نقولا، عادت الى الساحة بقوة في ايام بوتين، القيصر الجديد الأدهى والأقوى من آخر قياصرة روسيا قبل 1917. والاتفاق الاخير الذي أنجز مع بشار الاسد يظهر بوضوح امكانات سيطرة روسيا على سوريا.

الانخراط الجديد لروسيا في محاولة اعادة بعض مخططات سايكس – بيكو يعود إلى أسباب عدة منها احتلال الموقع الاساسي في انقاذ سوريا من التقسيم، الذي بات واقعًا اليوم، والاستئثار بموارد النفط والغاز المرجحة في المياه الاقليمية السورية، وحيازة مواقع اساسية للقوات الروسية، الجوية والبحرية وان اقتضى الامر البرية في سوريا، وكل ذلك على حساب ايران ومناصريها. والاتفاق المشار اليه يبيّن بوضوح مدى القدرة التي وفرت لروسيا على التحكم بالشأن السوري.

اذا ساد التعقل ومحاولات التهدئة بين السعودية وايران، نجد ان طاقات البلدين هي الاوفر في المنطقة وان انصرافهما إلى شؤون التنمية الداخلية وتوفيرهما المساعدات غير العسكرية للبلدان المجاورة يسهمان في حل القسم الاكبر من مشاكل منطقتنا. ولننظر في المعطيات.

يبلغ عدد سكان ايران 80 مليونًا، ومعدل الدخل الفردي للمواطن 6150 دولارًا، وبالقيمة الشرائية يساوي 18070 دولارًا. وتحوز ايران ثاني أكبر احتياط للغاز في العالم ورابع اكبر احتياط للنفط كما حققت تقدمًا صناعيًا ملحوظًا سواء بالانتاج العسكري أو المدني، ولديها احتياط نقدي بما فيها الأرصدة المجمدة التي سيفرج عنها والبالغة 150 مليار دولار، ما يزيد على 250 مليار دولار. وحاجاتها لاعادة تنشيط اقتصادها كبيرة ومتنوعة وفرص الاستثمار فيها متعددة وقد تستقطب، في حال سيادة الهدوء في علاقاتها العربية، عشرات المليارات من الدولارات. كما ان التنسيق بينها وبين السعودية وروسيا في سياسات تسويق النفط يمكن ان تؤدي الى ارتفاع أسعاره الى 60 دولارًا للبرميل ويزيد، والبلدان يعانيان عجزاً في الموازنة نتيجة تدني أسعار النفط.

في المقابل، يبلغ عدد سكان السعودية 31 مليونًا، ومعدل الدخل الفردي على مستوى 23960 دولارًا، وبالقيمة الشرائية يساوي 55340 دولارًا، أي ما يوازي او يفوق بالقيمة الشرائية معدل الدخل في معظم البلدان الأوروبية. ولديها احتياط نقدي يفوق الـ680 مليار دولار، واحتياطها النفطي يساوي 260 مليار برميل ولو شاءت كما اوحى ولي ولي العهد الامير محمد بن سلطان تسويق شركة “ارامكو” لاستطاعت حتى مع هبوط أسعار النفط تأمين أربعة تريليون دولار. ونشير الى شراء شركة صينية تشارك فيها قطر احتياطي شركة كندية في المياه الاميركية في مقابل 19 دولاراً لكل برميل في باطن الارض.

سيادة التفاهم بين السعودية وايران تؤدي الى التعجيل في الاستقرار في العراق وسوريا واستعادة المنطقة امكان النمو وتنويع الانتاج، وخفض نفقات التسلح.

ومن أجل اعطاء صورة مبسطة عما يمكن توقعه، نشير الى ان استعادة معدلات نمو على مستوى ستة إلى سبعة في المئة في ايران والسعودية سنويًا تؤدي الى ارتفاع دخلهما القومي سنويًا بما يوازي 24 مليار دولار يسهم توافرها في دفع اقتصاد البلدين قدمًا. هذا من دون احتساب الوقع الايجابي على الدخل القومي في البلدين بعد زيادة سعر النفط الى 60 دولارًا أو أكثر في المستقبل القريب.

الامر المثير للاهتمام ان التوصل الى اتفاق على الحرب في سوريا، والذي لا بد أن يسهم في الحدّ من مجريات الحرب في العراق، يستند الى مساهمة روسيا في التوصل الى اتفاق كهذا وهي الدولة التي ابتعدت، بسبب احداثها الداخلية، عن الاسهام في صياغة اتفاق سايكس – بيكو وربما لو ساهمت منذ مئة سنة في تلك الصياغة وعدّلت الاتفاق لكانت أوضاعنا أفضل مما هي اليوم!