«الشرق الأوسط» مصطلح جغرافي حديث العهد، ظهر في مطلع القرن العشرين، للدلالة الى منطقة عميقة الجذور في تاريخ شعوبها وأديانها وحضاراتها. في مرحلة سابقة، اعتُمدت تسمية الشرق الأدنى، الأوسع جغرافياً وسياسياً، بدل الشرق الأوسط. ومن أسباب ثبات مصطلح الشرق الأوسط في أدبيات السياسة الدولية، لا سيما الغربية، النزاع العربي – الإسرائيلي الذي عُرف أيضاً بنزاع الشرق الأوسط، ولفترة طويلة لم ينافسه أي نزاع إقليمي آخر.
في عهد الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش برزت مقولة الشرق الأوسط الجديد، وشكلت الغطاء المعنوي والسياسي للغزو الأميركي للعراق في 2003. و «الجديد» مردّه إلى التحول الديموقراطي في العراق ودول الجوار الذي كان يُفترض إنجازه بسنوات قليلة، خلال ولاية بوش الرئاسية، ولو بقوة السلاح. فبالنسبة إلى منظرّي السياسة الخارجية من المحافظين الجدد (neocons) في إدارة بوش، إزاحة النظام العراقي كانت ستُطلق الديموقراطية والحريات في المنطقة. إسقاط النظام لاقى ترحيباً في البداية من عراقيين كثر، لا سيما ضحايا ممارسات صدام حسين، إلا أن النظام الإقليمي العربي قائم على أنظمة سلطوية لا مصلحة لها بنجاح الديموقراطية في العراق أو في أي مكان آخر.
وجاءت سياسات الإدارة الأميركية لتفاقم النزاعات داخل العراق وفي محيطه. فبعد العملية العسكرية التي قضت على النظام في غضون أيام، لم يبقَ سياسة متهورة إلا واتّبعتها واشنطن، إلى أن أصبحت كلفة الاحتلال تفوق مردوده السياسي.
اعتمد الرئيس أوباما سياسة مناقضة لسلفه، فنفّذ وعوده الانتخابية بانسحاب الجيش الأميركي من العراق، وإن لم تحقق واشنطن أهدافها. ولم يبقَ من الشرق الأوسط الجديد سوى نزاعات وعصبيات اختزنها الشرق القديم، وبات للديموقراطية سمعة سيئة في المنطقة، مرادفة للفلتان.
الربيع العربي، خلافاً لحرب العراق وتداعياتها، صناعة محلية – إقليمية، لم يكن للدول الكبرى دور أساسي في انطلاقته، وإن أثّرت لاحقاً في مساره ومآله. أعاد الربيع العربي المجتمعات العربية، لا سيما في المشرق وليبيا، الى ماضٍ يصعب ربطه بأي من الحقبات التاريخية التي عرفتها المنطقة وشعوبها. في الشرق القديم تحاربت الإمبراطوريات ولم تقم كيانات دول أو قوميات، ولا طبعاً وسائل إعلام وإنترنت. وفي السنوات الأخيرة استفاقت «الهويات القاتلة» دفعة واحدة، وقد يصعب على ابن خلدون وسيغموند فرويد وفرنان بروديل ربطها بأي سياق تحليلي في علم النفس والجغرافيا والتاريخ. فبالإضافة إلى النزاعات المتداخلة بين المحلي والإقليمي والدولي، الجانب الدولي حالة غير مألوفة مع اندفاعة روسية تقابلها برودة أميركية، ما دامت إسرائيل محيّدة، وإرباك أوروبي مصدره الإرهاب وأزمة اللاجئين. سياسات حسن الجوار التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي مع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في السنوات الأخيرة لم يبقَ منها شيء يذكر.
في الشرق الأوسط المستجد، لا الجديد، تتبعثر المعايير وتتناقض المعطيات في أبرز مكوناتها، ومنها: أولاً، نظام إقليمي عربي معطّل، تراجع دور مصر المكبّلة بهمومها، وجامعة عربية مجنّدة لمواجهة إيران بعد عاصفة حزم ارتدّت على صانعيها؛ ثانياً، ثمة دول في المنطقة لم تعد فاشلة فحسب بل مجتمعات متباعدة، لا سيما ليبيا وسوريا والعراق، الى حدّ استحالة إعادة جمع مكوناتها في إطار سياسي مستقر؛ وثالثاً السعودية مُربكة، تستنجد بعروبة تبحث عمّن ينجدها، وإيران تنفتح على العالم، وتركيا تبحث عن دور ونفوذ على قياس طموحات رئيسها وسياساته الصدامية مع الحلفاء والأعداء.
في ظل هذا المشهد المأزوم، تبدو إيران قوة إقليمية صاعدة أو، بكلام أدق، غير مُنهَكَة. إيران، كما الشرق الأوسط، مستجِدة لجهة البراغماتية التي ترعى الآن سياستها الخارجية، إضافة إلى انخراطها المتدرّج في الاقتصاد العالمي بعد عقود من القطيعة المعولمة. بعد عزلة طويلة، استطاعت طهران أن تفرض نفسها لاعباً محورياً على المستويين الإقليمي والدولي. هذه النقلة النوعية لا تخلو من مطبّات وتحديات، إلا أنها خطوة ثابتة بأعباء لا تقيّد حركتها، بالمقارنة مع حقبة ما قبل اتفاق فيينا أو دول المحيط العربي المنهكة وتركيا المتوثّبة.
يأتي الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى المنطقة بهموم الحد الأدنى في نهاية ولايته الرئاسية الثانية والأخيرة. سيُطمئن الحلفاء المعتمدين على ثبات الحماية الأميركية وسيتابع مستلزمات المصالحة مع إيران بحذر شديد، ولم يعد يقلقه ابتزاز إسرائيل ولا حالة «التوحّد» التي تعيشها «ديموقراطيتها». الشرق الأوسط المستجد يتم التعامل معه كما هو، بلا أوهام أو أحلام، وفي أولويات واشنطن إبعاد مشاكله وهمومه وإرهابه عنها، وإذا أمكن، عن الآخرين.