لا بدّ من إدراج زيارة الرئيس السوري بشار الاسد الى سلطنة عمان في إطار الحدث المهم، ليس فقط لأنها الزيارة الثانية لعاصمة عربية منذ اشتعال الساحة السورية في العام 2011، بل خصوصاً لأنها تحمل أبعاداً سياسية لها علاقة بخطوات اعادة تشكيل منطقة الشرق الاوسط للحقبة المقبلة.
فالمعروف عن سلطنة عمان بأنها صاحبة حركة ديبلوماسية صامتة ولكن فاعلة بحكم التجارب التاريخية والتي شهدت إخراجاً ناجحاً لعدة ملفات شائكة ومهمة، وفي طليعتها المفاوضات الاميركية – الايرانية حول الاتفاق النووي، والتي أنتجت التوقيع عليه في العام 2015. وهذا ما عزّز ثقة ايران بها كما ثقة الولايات المتحدة الاميركية، ومن دون ان تفقد علاقتها الجيدة بالسعودية، وهو ما دفع بالبعض لاعتبارها كمطبخ سري للاتفاقات الحساسة والمصالحات الاقليمية.
واستتباعاً، فإنّ من البديهي الاستنتاج بأن دعوة الرئيس السوري الى مسقط ما كانت لتتم لولا موافقة العواصم الثلاث، اي: طهران وواشنطن والرياض.
مع الاشارة الى انّ هذا الحدث تزامَن مع اعلان السلطات العمانية عن فتح مجالها الجوي امام جميع الطائرات المدنية، بما فيها ضمناً الطائرات الاسرائيلية والتي ستصبح رحلاتها الى الهند والصين أقصر مسافة. مع الاشارة الى ان هذا الامر شكّل طلباً دائماً للاميركيين، والذي كان قد سبقه فتح المجال الجوي السعودي امام الطائرات الاسرائيلية. والواضح انّ مسقط ستتولى مهمة استعادة الحضور السوري في العالم العربي عموما والخليجي خصوصاً، وسط استعداد المسؤولين الخليجيين لإقران انفتاحهم على دمشق بتسوية سياسية تطال الدستور الجديد واعادة توزيع السلطة. وهذه المرونة المستجدة تجاه دمشق تترافَق مع مرونة مشابهة تطال الازمة اليمنية.
ولا بد من الاشارة هنا الى مسلسل ضبط الشحنات البحرية الايرانية المحمّلة بالاسلحة، والتي قيل انها كانت متوجهة الى الحوثيين. وقد كثرت عمليات الضبط هذه خلال الاشهر الماضية من قبل البحرية الاميركية والتي انضمّت اليها مؤخراً البحريتين الفرنسية والبريطانية. وهو ما فُسّر بأنه تشديد غربي اكبر حول سواحل اليمن للضغط على ايران والحوثيين على السواء لخفض سقف الشروط والشروع في تسوية سياسية بعد تثبيت وقف لإطلاق النار.
وفي المقابل فإنّ اجواء الحوثيين توافق على ان الوقت حان لتثبيت وقف اطلاق نار دائم في اليمن، لكنّ البحث في تسوية سياسية تتضمن كيفية اعادة توزيع السلطة والبحث في موضوع السلاح خارج اطار القوات المسلحة الشرعية والمقصود هنا السلاح الموجود لدى الحوثيين، سيأخذ وقتاً قد يطول بعض الشيء.
طبعاً، السعودية تتمنى ان يجري التفاهم سريعاً حيال تسوية سياسية تضع خاتمة نهائية لحرب اليمن التي طالت كثيراً، والتي أصابت الامن الحيوي للسعودية، لكن تثبيت وقف اطلاق النار يعتبر مدخلاً جيداً، خصوصا انّ الرياض باشرت منذ فترة وفي ظل طموح ولي العهد الامير محمد بن سلمان لتثبيت موقع جديد يجعلها صاحبة التأثير المحوري في الشرق الاوسط الى جانب انقرة وطهران. وهي تتولى ذلك من خلال دور جديد لا يعتمد فقط على مكانتها العالمية كمصدر اساسي للطاقة النفطية، بل ايضا كعاصمة سياحية وصناعية وإنتاجية. وهذا ما تجلى بالانفتاح الداخلي وبناء مشروع نيوم الضخم.
وفي الوقت نفسه تراجع التشنّج الذي كان قائماً بدرجة لافتة بين السعودية وايران، ولو انه من المبالغة القول إنّ العلاقة بين القطبين الاقليميين قابلة لأن تصبح طبيعية مستقبلاً. ربما تقتضي الموضوعية وصف ما يحصل بالتبريد اكثر منه استعادة علاقات دافئة. فإيران تسعى لأن تتغلّب او على الاقل ان تحتوي الضغوط الحاصلة عليها من خلال العقوبات والاقتصاد والضربات الامنية عن طريق نسج علاقات اقوى واكثر إنتاجية مع اخصام الولايات المتحدة وفي طليعتهم روسيا والصين.
صحيح انّ زيارة الرئيس الايراني الى بكين لم تؤد الى نتائج مهمة وكبيرة، الا ان ذلك لم يمنعها من تطوير علاقتها بموسكو من خلال تعزيز الشراكة العسكرية معها. ففيما اعلنت عن تطوير صاروخ كروز ليبلغ مداه 1650 كلم، جرى التداول عن وجود نية ايرانية لشراء مقاتلات روسية، وفي الوقت نفسه كُشف النقاب عن سعي طهران لتزويد سوريا بشبكة دفاع جوي متطورة. في وقت تسعى فيه روسيا لتكثيف ضرباتها الصاروخية في اوكرانيا، وهو ما فسّر تعزيز عدد سفنها البحرية في البحر الاسود. وبالعودة الى ساحات الشرق الاوسط فإنّ رئيس الحكومة الاسرائيلية المأزوم داخلياً اتجه لتعزيز علاقته السياسية وتعاونه الامني مع السلطة الفلسطينية والى رفع مستوى استهدافه لإيران من خلال الساحة السورية.
وتردّد بأنّ وزير الخارجية الاميركية انطوني بلينكن نصح المسؤولين الاسرائيليين خلال زيارته الاخيرة الى اسرائيل، بضبط المواقف السياسية التي يعلنها الوزراء المتطرفون ضد السلطة الفلسطينية. وارتكز المنطق الذي حَمله بايدن بأنّ سعي نتنياهو لاستكمال مسار اتفاقات ابراهيم، لا يمكن تتويجه من دون التطبيع مع السعودية التي اعلنت انّ ذلك غير مطروح من دون حل مع الفلسطينيين. وبالتالي فإنه من الاجدى استعادة التعاون مع السلطة الفلسطينية في مقابل التركيز على استهداف النفوذ الايراني في سوريا، وحيث تشكّل ايران العدو المشترك لهما. عند ذاك قد تصبح المسافة أقرب باتجاه السعودية. وسجّل بعد ذلك ارتفاع مستوى الغارات الجوية كما حصل في كفرسوسة. ووجد نتنياهو ذلك ايضا هروباً من الصراعات الداخلية وأزمة «إضعاف القضاء»، وهو ما ادى الى تراجع كبير في شعبية الحكومة وصلَ في آخر الاستطلاعات الى حدود الـ 55 مقعداً في مقابل 65 لأخصامها. والاهم تراجع حصة الليكود من 32 مقعداً الى 26 في مقابل حصول حزب رئيس الحكومة السابق يائير لابيد على 27 مقعداً.
والمأزق الاسرائيلي الداخلي جعلَ نتنياهو يغامر بخرق قواعد الهدوء في جنوب لبنان، في رسالة ردٍ على خطاب امين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله، من خلال اطلاق قذيفة مدفعية. أراد نتنياهو ان يقول من خلال رسالته انه جاهز للتصعيد في لبنان وفي غزة في الوقت نفسه. في الحقيقة إنّ الجزء الذي أزعج نتنياهو من خطاب نصرالله هو المتعلّق بالتركيز على الصراعات الداخلية العنيفة والتي أخذت بُعداً يطال النسيج الاجتماعي الاسرائيلي. وأيّاً يكن من أمر، الا ان الرسالة المدفعية الاسرائيلية والصمت اللبناني الذي قابَلها دليل جديد بأن خيار الانزلاق باتجاه الحرب مسألة خارج حسابات الجميع حالياً. وهذا الجو المأزوم اسرائيلياً والمَرن في اليمن وسوريا، قد يدفع بالرئيس الاميركي الى دفع قطار التسويات، والتي ستشمل لبنان في وقت ليس ببعيد.
ذلك انّ جو بايدن المَزهو بالنتائج التي حققها بعد زيارته المثيرة الى اوكرانيا، والتي يريد ان يوظّفها في إطار ترشّحه من جديد لولاية ثانية رغم انه اصبح الرئيس الاكبر سناً في التاريخ الاميركي، قد يفتح الباب بشكل اوسع امام ترتيب التسويات في اليمن وسوريا وايضا في لبنان، ذلك انّ الشهرة التي اكتسبها بايدن كأحد أقدم أعضاء الكونغرس الاميركي وبأنه احد اهم خبراء السياسة الخارجية، سيعمد الى التقاط أوراقها لتثبيت ترشّحه من جديد رغم المعارضة الواسعة لهذا التوجه.
وفي موازاة ذلك، اندفعت باريس في تحرّك جديد لتثمير نتائج مشاورات الدول الخمس حول الازمة الرئاسية في لبنان، وجَس نبض ايران و»حزب الله» حول ما حصل، قبل الشروع في التحضير للاجتماع المقبل والذي سيكون على الأرجح على مستوى وزراء خارجية الدول الخمس، والذي سيتمخّض عنه ورقة ختامية ببنود واضحة مطروحة للتنفيذ ومقرونة بعقوبات للفريق الذي سيصنّف بأنه معرقل لكنّ الاهم انّ باريس تُدرك بأنّ العجلة في لبنان تنتظر مسألتين أساسيتين:
الاولى: ان تنضج الظروف الاقليمية وان تصبح اكثر ملاءمة لتحريك العربة اللبنانية، وهو ما يعني انتظار نتائج على المستويين اليمني والسوري.
الثانية: ان تنخرط واشنطن في مسار جدي مع «حزب الله» يؤدي الى نتائج حاسمة من خلال مفاوضات تشبه الى حد ما المفاوضات التي واكبت ترسيم الحدود البحرية، وهذا ما لم يحصل بعد.