بعد الاتفاق النووي الأميركي الإيراني، هل تعترف الولايات المتحدة بدورها في الانقلاب الذي أطاح حكومة الرئيس الإيراني محمد مصدّق في عام 1953؟.
على الرغم من مرور 62 عاماً على الانقلاب فإن الولايات المتحدة استجابة لإلحاح شديد من حليفتها بريطانيا، لا تزال تمتنع عن نشر الوثائق الرسمية المتعلقة بدور واشنطن ولندن في تدبير الانقلاب. في ذلك الوقت نفذ الانقلاب لإجهاض عملية تأميم النفط في إيران، وإخراج السياسة الإيرانية من تحت المظلة الأنكلو- أميركية.
نجح الانقلاب الذي قامت به وكالة المخابرات الاميركية «السي. آي. إيه « بالمشاركة مع وكالة المخابرات السرية البريطانية. وأُطيح الرئيس مصدّق وحكومته الوطنية؛ ومنذ ذلك الوقت تحوّل الشاه محمد رضا بلهوي إلى أداة طيّعة بيد واشنطن ولندن.. إلى أن قامت الثورة الإسلامية في عام 1978 وأطاحته.
يسمح القانون الأميركي بنشر الوثائق السرية التي يمر عليها نصف قرن من الزمن. ولقد مرّ أكثر من نصف قرن وعقد من الزمن على عملية الانقلاب على مصدّق، ولا تزال الوثائق محجوبة في معظمها عن الباحثين والمحققين.
في عام 1989 نشرت الخارجية الأميركية مجلداً من الوثائق التي تتعلق بعهد الرئيس الأميركي في ذلك الوقت الجنرال أيزنهاور. ومن بينها بعض الوثائق التي تتعلق بالمؤامرة على مصدّق. يومها تدخلت الحكومة البريطانية أحياناً بالتوسل، وأحياناً أخرى بالضغط، على واشنطن لمنع نشر الوثائق الأخطر. وهكذا كان. ذلك ان هذه الوثائق تكشف (كما يؤكد عملاء سابقون في المخابرات الأميركية نشروا مذكراتهم عن تلك الحقبة)، عن «دور قذر» كما سموه، للمخابرات البريطانية. ولتجاوز هذه المشكلة وتداعياتها، دعا وزير الخارجية البريطانية وليم هيغ الى ما سماه «وضع حد لعقدة الذنب عن الأخطاء التي ارتكبتها بريطانيا خلال الفترة الاستعمارية«. غير انه اضطر الى التراجع عن التحرك عملياً في هذا الاتجاه بعد أن جرى تنبيهه إلى أن الإيرانيين سوف يوظفون الاعتراف للإدانة.. وللمطالبة بالتعويض.. وانهم ليسوا من النوع الذي يتعامل بتسامح مع الاعتراف بالخطأ.
صحيح أن بريطانيا نجحت في الإطاحة بمصدق، وبالهيمنة على القصر الشاهنشاهي.. إلا أن هذه الهيمنة لم تعمّر طويلاً. فقد تأكل النفوذ البريطاني بسرعة.. ليحلّ محله النفوذ الأميركي الذي جعل من الشاه أداة طيّعة بيد الإدارة الأميركية وحدها. حتى أن السفير الأميركي في طهران كان يمارس سلطته الواسعة على الشاه وعلى حكومته.. حتى اللحظة الأخيرة قبل الاطاحة به.
لقد كان من المقرر أن يصدر مجلد ثانٍ عن وثائق المؤامرة على مصدّق في العام 2014، غير أن المباحثات النووية بين الولايات المتحدة وايران كانت قد بدأت. فخشيت الولايات المتحدة أن يؤدي نشر الوثائق الى تعكير صفو هذه المباحثات التي وصلت الى نهايتها السعيدة في شهر تموز يوليو من العام الحالي. فالرئيس باراك أوباما كان يعتبر منذ أن دخلت إدارته في المفاوضات مع ايران، أن التوصل الى اتفاق معها يمكن أن يشكل الانجاز الأهم في سياسته الخارجية. ولذلك كان حريصاً على قطع الطريق أمام أي عملية تشويش تعطل أو تعرقل سير المفاوضات. فكان القرار بإغلاق ملف نشر «الوثائق القذرة» حول الدور المشترك للمخابرات الاميركية والبريطانية في الاطاحة بحكومة مصدق.
أطلقت الـ»سي.آي.إيه» على تلك العملية الاسم الرمزي «ت.ك-اجاكس». وأطلقت عليها المخابرات السرية البريطانية اسماً رمزياً آخر هو الجزمة «بوت». وكان الاسم البريطاني يعبّر عن مدى كراهية مصدق الى حد الرغبة في الإطاحة به.. بالجزمة!
فالرئيس مصدق أمم «شركة النفط البريطانية» التي كانت حتى عام 1953 تعتبر أحد أهم مصادر الدخل القومي البريطاني. وقد جاءت عملية التأميم بعد عام واحد من قيام الانقلاب العسكري في مصر بقيادة محمد نجيب وجمال عبد الناصر في عام 1952، مما ضاعف من مخاوف بريطانيا على مصالحها في المنطقة. فأرادت الاطاحة بمصدق حتى لا يكون مثلاً يحتذى. ولكن عبد الناصر احتذى به عندما أمّم قناة السويس في عام 1956 التي كانت تملك أسهمها بريطانيا بالمشاركة مع فرنسا. فكان العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الاسرائيلي على مصر والذي انتهى بتثبيت التأميم، وانهيار حكومة المحافظين البريطانية بقيادة الرئيس ماكميلان ووزير خارجيته أنطوني أيدن.
ومنذ ذلك الوقت فقدت بريطانيا حضورها المؤثر في المنطقة. ومنذ ذلك الوقت أيضاً فرضت الولايات المتحدة نفسها وريثة لبريطانيا وذلك من خلال أمرين أساسيين :
الأمر الأول هو تحميل بريطانيا وحدها مسؤولية الإطاحة بالرئيس مصدق. أو على الأقل تحميلها القدر الأكبر من المسؤولية. وهو ما يعرف اليوم «بالدور القذر « للمخابرات البريطانية.
أما الأمر الثاني فهو رفض الولايات المتحدة برئاسة الجنرال ايزنهاور دعم أو حتى تغطية العدوان الثلاثي على مصر. وبدلاً من ذلك، فتحت واشنطن الباب أمام التفاهم مع الانقلاب العسكري.. الى ان انهارت تلك المحاولات بعد سحب تمويل بناء السد العالي، ولجوء مصر الى المعسكر السوفياتي لشراء الاسلحة (من تشيكوسلوفاكيا).
تشير هذه الوقائع الى مدى تداخل ما يحدث في ايران بما يمكن أن يحدث في دول المنطقة. كما تشير إلى أن العلاقات بين القوى الخارجية الكبرى، حتى وإن كانت متحالفة سياسياً، فإن مصالحها تتقدم على هذا التحالف. بل إن هذه المصالح هي التي تملي التحالف.
فالولايات المتحدة تتبوّأ اليوم الموقع المميّز الذي كانت تتبوّأه بريطانيا حتى مطلع الخمسينات من القرن الماضي. ولكن أين بريطانيا اليوم؟.. وأين يمكن أن تصبح الولايات المتحدة غداً؟ إن العالم يتغيّر باستمرار.. ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام!!.