عندما كشف الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو عن بنود «صفقة القرن»، وسط تصفيق عربي واسع، علني ومستتر، كان واضحاً أنّ لحظة جديدة قد حلَّت في الشرق الأوسط. وفي عبارة أخرى، أنّ هناك أفقاً بدأ يظهر في سماء الساحات الملتهبة منذ اندلاع «الربيع العربي» في 2010.
ليست إسرائيل مستعجلة لتنفيذ بنود «الصفقة». فأمامها المزيد من عمليات إحراق الوقت والمراحل… والناس، قبل ذلك. ولكنها بإعلان «الصفقة» رفعت سقف الإعتراف العربي والدولي بطموحاتها التوسعية: القدس والجولان والضفة الغربية وغور الأردن.
ويُرتقَب أن تمارس حكومة نتنياهو المقبلة – إذا اكتملت له فرص تأليفها- ضغوطاً استثنائية لإنجاز عمليات الضمّ والسيطرة على الغور والمنطقة «ج» والمستوطنات وجوارها في الضفة، ما يكرِّس الأمر الواقع الديموغرافي الجديد.
فـ»الصفقة» تستبعد تماماً حقّ الفلسطينيين في العودة، إذ تغيِّر في صفة اللاجئ بإنكار حقّ لاجئي 1947 و1948 و1949 في توريث صفة «اللجوء» لأولادهم وأحفادهم. وهذا ما يحصر أعداد اللاجئين ببضعة آلاف فقط.
ولذلك، ستتفاقم أزمة «الأونروا»، لجهة حصولها على حصص التمويل الكافية، ما يهدِّد بإسقاطها وفقدان خصوصية الهوية التي يحملها اللاجئ الفلسطيني، لينضمّ اللاجئون الفلسطينيون المسجّلون (قرابة 5.5 ملايين) كسواهم في العالم، إلى المفوضية العليا للاجئين.
هذا الأمر سيستثير قضية ساخنة في بلدان الشتات الفلسطيني، هي طريقة توزيع هؤلاء اللاجئين، والأثمان المطلوبة لذلك، وما تفرضه من خلافات بين الدول العربية المعنية حول هذا الملف، ومنها لبنان، الذي يستضيف ما بين 300 ألف فلسطيني و500 ألف (التباين في الأرقام متعمَّد لغاية في نفس يعقوب).
وقد تثير إسرائيل في المرحلة المقبلة مسألة التعويضات المالية ليهود البلدان العربية الذين غادروا إلى هذه الدولة بعد نشوئها، لإقامة توازن مع مطالبة الفلسطينيين بتعويضات. وهذا ما يستثير قضية شائكة إضافية، تتداخل مع ملفات سياسية واقتصادية، بدأت تزداد سخونة بين إسرائيل والدول العربية. ومن هذه الملفات:
– تَوَزُّع موارد الغاز والنفط في المتوسط وخطوط الإمداد نحو أوروبا.
– مقدار مساهمة الدول العربية الغنيّة في تمويل «صفقة القرن».
– ملفات ترسيم الحدود بين إسرائيل والبلدان المجاورة وما يُثار عن مقايضات جغرافية بين بعضها لتسهيل «التسوية».
– التداخل بين «صفقة القرن» ونزاع المحاور الإقليمية: إيران – الولايات المتحدة، وأدوار تركيا وروسيا والأوروبيين.
كما تدخل في المعادلة نزاعات شمال إفريقيا، ولا سيما منها ليبيا، ودخول إسرائيل والولايات المتحدة على خطّ الخلاف بين أثيوبيا والسودان ومصر حول «سدّ النهضة» على النيل، وطبعاً مسائل التطبيع والتجارة والترانزيت بين إسرائيل والدول العربية ثم أوروبا وإفريقيا وآسيا.
إذا استطاع نتنياهو أن يشكّل حكومته بعد هذه الانتخابات التشريعية، الثالثة، فعلى الأرجح ستتبنّى اتجاهات يمينية. وأساساً، عبَّرت الزيادة في مقاعد «الليكود» عن مزاجٍ أكثر انحيازاً إلى الطروحات التي نصَّت عليها «صفقة القرن».
ولكن، كان لافتاً نمو الكتلة العربية أيضاً إلى 15 مقعداً. وهذا يترجم ردَّ فعل رافضاً لهذا الجنوح نحو التطرُّف من جانب فلسطينيي 1948. ولذلك، ثمة مَن يعتقد أنّ نتنياهو والقوى اليمينية قد تتّجه في المرحلة المقبلة إلى قوانين انتخاب تُقلِّص من تأثير الكتلة الفلسطينية الناخبة، بالتوازي مع تدعيم فكرة «يهودية الدولة».
وعلى الأرجح، ستفتح إسرائيل ورشة ذات طابع جغرافي- ديموغرافي للتخلُّص من الواقع الذي يقضّ المضاجع، أي النمو الديموغرافي المتسارع للفلسطينيين في إسرائيل.
وربما يكون على الأردن أن يتلقّى الشحنة الأكبر من الديموغرافيا الفلسطينية، من خلال «الترانسفير» المقرَّر منذ ما قبل نشوء إسرائيل. وثمة مَن يعتقد أنّ استقرار الأردن ونظامه السياسي مرهونٌ بمدى موافقته على أداء الدور المطلوب منه في «صفقة القرن».
في كل هذه الورشة، الاستحقاق الأول سيكون مواجهة إيران. فإسرائيل لن تهادن في مسألة التوسّع الإيراني ليبلغ حدودها ويشرف على البحر الأبيض المتوسط وموارد الغاز والنفط وخطوطها نحو أوروبا.
وفي المرحلة السابقة، ربما بقي نتنياهو يتجنّب أي مواجهة واسعة ومباشرة مع النفود الإيراني في لبنان أو سوريا، لأنّه ينتظر الإنتخابات التشريعية وتشكيل حكومة يحظى فيها بالقدرة على اتخاذ القرار.
ويعتقد بعض المتابعين، أنّه بعد تشكيل الحكومة سيكون أكثر تشدّداً في مواجهة إيران. ولا يمكن استبعاد المغامرة العسكرية في هذا المجال، خصوصاً إذا كانت تخدمه لتخفيف الضغط في ملف فساده المفتوح أمام القضاء.
واللافت، أنّ الضربات المتتالية التي يوجّهها الإسرائيليون إلى المواقع الإيرانية في سوريا تمرّ من دون ردّات فعل تُذكَر لا من جانب روسيا، ولا حتى من جانب نظام الأسد. وكذلك مرَّ اغتيال الأميركيين اللواء قاسم سليماني. ومن الواضح أنّ القرار بإبعاد إيران متّخذ ومنسّق وينفّذه الجميع.
كل هذه الاستحقاقات ستؤدي إلى إحداث تحوّلات مهمّة في عدد من دول الشرق الأوسط، ولا سيما منها الجوار الإسرائيلي وصولاً إلى العراق ودول الخليج وإيران.
وطبعاً سيكون لبنان في طليعة المستهدفين من خلال: ملفات النازحين الفلسطينيين والغاز وترسيم الحدود براً وبحراً… وفكّ الارتباط بنفوذ إيران. وسيكون على لبنان أن يواجه نتنياهو العائد إلى السلطة مستقوياً بدعم أميركي متجدّد.
في ظل هذه المنظومة السياسية المهترئة، ليس واضحاً كم يستطيع لبنان أن يصمد في وجه الاجتياح الكاسح لغطرسات القوى الإقليمية المتنازعة على النفوذ فيه، وهل هو قادر على أن يقول «لا» إذا فُرِضت عليه الخيارات.
هذه المنظومة المهترئة جرَّدت لبنان من كل أوراق القوة. لكنها طبعاً لا تنسى التشدُّق، كل لحظة، بشعارات الوطنية والقومية والصمود والتصدّي!