IMLebanon

اشتعال الشرق ومفارقات «الاستثناء اللبناني»

الكيانات الوطنية السورية والعراقية واليمنية والليبية تواجه خطراً وجودياً حقيقياً.

هناك أنظمة أضحت ميليشيات. أراحت نفسها تماماً من أية وظيفة تناط بالدولة. ثمة حالتان مختلفتان، بشار الأسد وعلي عبد الله صالح. وبدل أن يكون هناك ثمة «حل يمني» لمسألة بشار الأسد، يحاكي تنحي صالح، اذ به «الحل السوري» لمسألة صالح يجد طريقه الى تسعير التناقضات المشتعلة في اليمن.

وهناك ميليشيات باتت تطرح نفسها كأنظمة، وفي حالتين، هما «الدولة الاسلامية» و»أنصار الله» ركبها جموح توسّعي، طبعاً بساقين مختلفتين، وافتراق واضح بين الطابع المزمن للمشكلة الحوثية في شمال اليمن، والطابع المحدث لتنظيم «الدولة» الذي هو، بالدرجة الأولى، من النتائج الوخيمة لكارثة الاحتلال الأميركي للعراق.

وهناك لبنان. يتصل بخارطة الحروب الأهلية والأزمات العربية من بوابات عدّة، ويتأثر بشكل خطير بتنامي الصراع المذهبي في الشرق العربي، ويسوده انعدام التوازن النافر بين الجماعات الأهلية – السياسية فيه على خلفية احتكار حزب واحد للسلاح الخارج عن سلطة الدولة والعابر للحدود والقضايا، وهو بين كل البلدان العربية اليوم من دون رئيس للدولة، لا يستطيع بذلك التمثّل على مستوى الدول العربية في قمّتها الأخيرة، على سبيل المثال لا الحصر. لكن هذا البلد، الذي عاش حرباً أهلية طويلة قبل عقود، يختلف وضعه مع ذلك بشكل لا لبس فيه، عما يعانيه العراقيون والسوريون والليبيون واليمنيون، وبالقدر نفسه الذي يطرح اللجوء الديموغرافي السوري فيه اشكالية انسانية واجتماعية وتوازنية بشكل عام، فانه يذكر اللبنانيين باختلاف الحالة القائمة في بلدهم حالياً عن الحالة التي تكابدها مجتمعات عربية بأسرها.

اذاً؟ في لبنان حالياً، مصلحة، ومصلحة كيانية وطنية استقلالية بامتياز، في الجمع بين التحدي التحليلي المتمثل على عدم اختزال قضايا المنطقة بعضها في بعض، وبين تعميم النظرة الى حالة السلام الأهلي القائمة، التي يمكن ان تقول عنها كل شيء، باردة وجزئية وعير مضمونة ومتأكّلة ومتوترة وموتورة، لكن لا يمكن أن تماثل بينها وبين ساحات الحريق الاقليمي.

التحدي التحليلي قوامه انه لا يمكن قراءة الحرب الأهلية في بلد بالحرب الأهلية في بلد مجاور فضلاً عن غير المجاور. وكما لا يجوز الخلط تعسّفاً، لا يجوز عزل ما يدور في بلد عمّا يلتهب به مجمل الإقليم. الخطأ الذي ساد التحليلات عندما أعتبِرت كل «الربيعات الربيعية» تشبه بعضهاً البعض لا يداوى بخطأ آخر يختزل حرب أهلية الى أخرى.

في الوقت نفسه ثمة مشتركات عديدة. أبرزها في بلدان المشرق ان الجمهورية الاسلامية الايرانية «ركبها عفريت» بعد سقوط نظام صدام حسين، وبدل ان تكذّب مزاعم صدام حسين السابقة حولها من انها تسعى للسيطرة شوفينياً على العرب باسم الثورة الاسلامية، اذ بها تنحو لاسناد هكذا مزاعم بالوقائع، الأمر الذي تسبّب بمسؤولية أساسية وان تكن غير حصرية، بمناخ التسابق الى التطرّف، وتنمية العدائيات المذهبية ذات الطبيعة التكفيرية للآخر أو التنجيسية له.

ولكنْ ثمة أيضاً نمط آخر من المشتركات. مثلاً المكابرة هنا وهناك على تسمية الأمور بأسمائها. في هذا البلد ثمة اضطهاد او ضيم ترزح تحته طائفة، وفي ذاك البلد اضطهاد او ضيم يرزح تحته قوم آخر أو طائفة أخرى. وهذا لم يعد يحلّ في منطقتنا بالمكابرة، أو برؤية مظلومية فئة وعدم الانصات للأخرى. خارطة المظلومين والمضطهَدين والمهمّشين أعقد بكثير من خارطة المحاور. وهنا، اذا كانت الحالة اللبنانية تختلف في «سلميتها الآن» عن التخريب الحاصل سورياً وعراقياً وليبياً ويمنياً، يبقى الجامع قوياً: ان السؤال حول كيفية بناء كيانات وطنية متينة بالنسبة لشروط استمرارها الداخلية ورحبة بالنسبة الى التعددية الدينية والثقافية والمناطقية داخلها، هو سؤال مطروح على كل شعوب الشرق العربي، لا ينفع استثناء أي شعب منه، ولا رهن هذا السؤال بتحيزات غريزية «تحميسية» لا تقدّم أو تؤخّر في مسار مواجهات طويلة .. ومريرة.