ذات مساء ربيعي قبل عامين تقريباً قلت لفؤاد بطرس الذي كنت أزوره بتوقٍ كمن يذهب الى روح دائرة المعارف:
تعرف معاليك انهم يقولون عنك إنك الأكثر تشاؤماً، لكنني لو سمحت، لطالما نظرت إليك كأنك سانتييغو بطل رواية همنغواي “الشيخ والبحر”، ولكن مع فارق أكثر فداحة لأنك التقطت دائماً السمكة السياسية الكبيرة ولم تستطع إيصالها الى شاطىء مشروع الدولة في لبنان.
ضحك على شيء من التسليم وقال: قد يرى البعض أنني كثير التشاؤم، لكنني في الواقع كثير المرارة.
نعم كان كثير المرارة ويرتحل تاركاً بحراً من المرارة، وهو البحّار السياسي المستقيم الرأي الذي نشر شراعاً في تاريخ لبنان سيبقى مدرسة في الإستقامة والجسارة والشجاعة، وفي الرؤيوية التي جعلها على إمتداد عمله في القانون ثم في السياسة ميرونه الأرتوذكسي، لكن طموحاته الإصلاحية عُلِّقت على صلبان فوق جلجلة الطائفية والطوائف والتقاطعات الخارجية فيها وعليها.
لا، لم يكن متشائماً قط، لكنه كان مصدوماً دائماً، ليس من الضغط الخارجي المستمر على تجربة الإصلاح التي بدأها مع فؤاد شهاب بل من التجاوب الداخلي للبنانيين مع هذه الضغوط، وها نحن بمزيد من الجنون نستمر في لحس المبرد، ولم يعد في عروق لبنان ما يكفي من الدماء التي بعضها يسيل وبعضها يجِفّ.
يرتحل فؤاد بطرس كفصل أساسي من تاريخ لبنان، وكأرزة شامخة ما إنحنت يوماً لعاصفة عندما كان وزيراً للخارجية، يختصر الحكومة أحياناً ويختصر الدولة حيناً، ويصارع وحيداً تقريباً بجسارته وصلابة مواقفه عواصف الأشقاء والأعداء على السواء… وهكذا عندما زرت الرئيس الياس سركيس برفقة الوزير الصديق شارل رزق بعد نهاية عهده، وقلت له يا فخامة الرئيس لقد وضعت الوزير فؤاد بطرس دائماً على الصليب في جلجلة الأشقاء، ضحك وقال: ومن غير فؤاد بطرس يستطيع ان يقارع الفريسيين؟
يرتحل فؤاد بطرس الذي منذ تسلمه وزارة الخارجية للمرة الأولى عام ١٩٨٦، عمل على مشروع طموح لإصلاح الدولة وفي سياق يذكّرنا بكلمة جون كينيدي في خطاب العهد: لا تسألوا ماذا يمكن ان يعطينا الوطن بل ماذا يمكن ان نعطي الوطن، والفارق بين الراحل الكبير ومعظم السياسيين الذين عرفناهم انه أعطى لبنان ولم يأخذ منه سوى المرارات التي على المرارات تكسّرت!
يدوي خبر إرتحال فؤاد بطرس على الذين يعرفون بصماته المضيئة في تاريخ الديبلوماسية اللبنانية، كصوت شجرة عملاقة أخرى تهوي في غابة الرجال الرائعين، لتذكرنا بشجرة غسان تويني الذي شاركه في وضع القرار ٤٢٥ وأطلق صرخته المدوية: دعوا شعبي يعيش، ونبقى نحن في برية العراء الكامل من الرجال الذين شكّلوا غابة أرز الوطن.