بعد مباشرة عمليات الطمر العائدة نظرياً وواقعياً، لشركة النفايات «المساهمة» التي تم «على ما يبدو» تفكيك أزمتها وبعثرة فرقائها من خلال حصرها بالمطامر الثلاثة التي حددها مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة، ممّا سمح بقوافل الزبالة المحمّلة بالأطنان أن تجد طريقها إليها، أطلّت علينا فور وضع حد لها (ولو مرحلي ومؤقت)، شبكة جديدة ومتجددة من النفايات العابقة هي الأخرى بروائح الفساد العام والشامل، وإن تجاوزتها بحدود كبيرة لتكون شبكات الإنترنت غير الشرعية والمغروسة في أعالي الجبال، ذات روائح كريهة هي الأخرى تمس أمن البلاد من خلال علاقاتها بشبكة سابقة من نفس النوع والقياس والحجم، سبق للأجهزة الأمنية أن وضعت يدها عليها وتبين أن لها علاقة بإسرائيل وبالنشاطات التجسسية الإسرائيلية في لبنان، والغريب العجيب أن هذه المنشآت الضخمة موجودة ومركّبة حيث هي في الأعالي ووسط نشاطات أمنية ورياضية وحتى سكنية، منذ ما يناهز العشر سنوات، والدولة وكلّ سلطاتها كانت غافلة (أو متغافلة) وعاجزة عن تبين هذا التواجد وأسبابه وغاياته، وعن الوسائل التي أُدخل بها إلى لبنان، وعن الرؤوس المدبرة والحمايات المختلفة التي أمّنت لها دخولها إلى البلاد واستمرارها في العمل والتطور والتمدد طوال هذه السنوات، والشواطيء والحدود السائبة، فكان من «زبائنها» مؤسسات أمنية وسياسية مختلفة، وكم كان هناك من شبكات أينعت وقُطفت ثمارُها في لبنان، بدءا بالمرافيء والمطار، ومرورا بالوزارات الحساسة ذات الوزن في دخلها وصلاحياتها وخدماتها المؤداة بكل ترحيب وترغيب، لقاء أثمان متعددة، بعضها مقبوض «كاش» بشتى أنواع العملات، وبعضها مقبوض على مستوى عال، خدمة يؤديها المسؤول دفعة على حساب الخدمات الإنتخابية والحزبية المتبادلة، دون أن ننسى خدمات «الموْنة» الطائفية والمذهبية وشبكات تتواجد وتتكاثر، ثمنها يتمُّ دفعه «للمستفيد» من خزينة الدولة ومن جيوب المواطنين، ومن مستقبل الأبناء والأحفاد، دون أن ننسى ما يُصرّح به المسؤولون عن القمح المسرطن، حيث تلاحقُنا أسباب المرض والمعاناة الصحّية والموت إلى كل زوايا حياتنا بما فيها لقمة العيش ورغيف الخبز.
أما عن شبكة النفايات، فقد أشبعت تعليقا وكلاما ونقدا قاسيا من كل حملة الأقلام والمرتجلين ومطوّلي اللسان في وسائل التواصل الإجتماعي، ومن خلال الهتافات عالية النبرة التي أطلقت بصددها بحقّ المسؤولين والزعماء بأفدح العبارات وأقذع الشتائم، وصولا في المطالب السياسية إلى حد المطالبة بإسقاط النظام الفاسد بكلّ أركانه وحكوماته ومجالسه النيابية، وهي أزمة باتت على الأرجح، على طريقٍ ما، لحلّ ما، يُبعدُ عنا وعن أنوفنا وعن صحّة أطفالنا، معظمَ ما عانيناه من مساويء ومآسي الفساد بكل أنواعه المادية والمعنوية والسياسية، وإن كانت أغلبية المواطنين ما زالت تشكك بمسيرة الحل الذي بدأ وتُرجّح العودة القريبة إلى إشكالاته ومشاكله.
… وها نحن مجددا أمام شبكة جديدة من الأزمات المتمثلة خاصة بشبكات الإنترنيت غير الشرعية المزروعة على رؤوس الجبال البعيدة التي كنّا فيها على وضع أغرب وأعجب، حيث تمكنت السلطات الإدارية والأمنية المسؤولة من مصادرة جميع الآليات التي كانت تستعمل لتمرّ من خلالها جميع الموبقات التي يمكن تصورها، وفي طليعتها شبكات التجسس والإتصال مع العدو، إضافة إلى سرقة أموالٍ الخزينة عن طريق جني أموال عائدة لها وللّبنانيين جميعا، فإذا بها تُقْتَطَع لمصلحة اللصوص والحراميّة وخبراء السرقة المنظمة على حساب الوطن والمواطنين، في وقت تعاني فيه البلاد من أحوالها المعيشية السيئة، ويسود فيها التراجع الإقتصادي إلى حدود مخيفة بدأت ترتجف من آثارها المزلزلة، أعمدة الكيان والوجود الوطني بأسره.
كل ما سبق قوله، على ماذا يؤشر؟ أهم الدلالات المستنتَجَة، أن وضعنا كلّه هو وضع سيء ومهتز ولا يبشّر بأي خير سواء بالنسبة لمصير الكيان والدولة ومستقبل الوطن بكل أسسه ودعائمه، أو بالنسبة للمواطن العادي البعيد عن دنيا المؤامرات والسمسرات والسرقات متعددة الأشكال والألوان، وضعنا يؤشر إلى أننا بتنا مرشحين بقوة وتصميم غريب وعجيب لندخل ضمن فئات الدول الفاشلة، والمؤسف أن الفشل المقصود هنا لا يقتصر كالعادة على الفشل الإقتصادي والإداري والرسمي، بل يتجاوزه إلى الإطار الوطني والكياني ذاته، كأنما انفراط اللحمة المطلوبة ما بين أبناء هذا الوطن قد أصبحت من المنسّيات التي لا تلقى الإهتمام والحماس المفترض إلاّ لدى قلائل من اللبنانيين الذين ما زالوا متشبثين بما تبقى من جذوره ووهجه الثقافي والإجتماعي والفني والريّادي، بينما أجيالهم الجديدة، تستعجل مراحل حياتها للإنتقال إلى مرحلة الإنطلاق إلى خارج لبنان، إلى الهجرة والإستحصال على جنسية أخرى والإقامة في بلد آخر، يمكّنهم من العيش الكريم ومن أدنى متطلبات الحياة العصرية في الطبابة والإستشفاء والدراسة والحياة الآمنة المستقرة وضمان الشيخوخة والعيش الكريم.
أغرب ما يمكنني أن أختم به هذا التعليق ما استقيته مؤخّرا من حياتي المهنية كمحام، بعد أن جاءني منذ أيام أحد المواطنين يطلب إلىّ أن أؤسس له شركة «سفريات وخدمات»، وعندما بدأت في أخذ المعلومات المطلوبة لتأسيس هذه الشركة فاجأني منذ السؤال الأول: ما الإسم الذي تريد إطلاقه على هذه الشركة؟ أجاب : شركة «هجرة»!! ولم ينتظر إستغرابي الشديد لهذه التسمية، بل سارع إلى القول: أنه إسم يحتوي على كثير من «الإيجابيات» منها أنه يخفي في ثناياه كسبا ماديا وفيرا، حيث أن الهجرة هي حلم الكثيرين ممن لم تعد الحياة في هذا البلد تعني لهم أملا مشرقا لمستقبلهم ومستقبل أولادهم وبعد أن أصبح الزواج حلما لن يتحقق بالنسبة للكثيرين من شبابهم إنطلاقا من مبدأ «العين بصيرة واليد قصيرة»، إلاّ إذا توفرت لهم حياة أخرى من نوع أصحّ وأنقى، وهذا لا يتأتّى إلاّ من الإقامة والعمل في الخارج. كنت أنوي أن أرفض تأسيس شركة «هجرة» هذه، لأسباب وطنية، ولكنني بعد أن تلكأت، وفكرت، عدت وتابعت سؤاله عن بقية بنود الشركة التي تمكنني من صياغة نظامها، وذلك… لأسباب إنسانية.