أبواب القارّة شُرّعت على أحلام كثيرة ومخطّطات أكثر
محاولات تَعدٍّ في ألمانيا على عربات إطفاء ليلة رأس السنة الماضية من قِبَل شباب من 18 جنسية مختلفة. فوضى في الشوارع الفرنسية في تمّوز الماضي إثر مقتل شاب من أصول جزائرية على يد الشرطة. وموجات النزوح السوري تُعمّق أزمة لجوء – هي الأكبر على الإطلاق منذ جيل كامل – لسنا في لبنان بمنأى عن مفاعيلها. أمثلة لا تُحصى. والمخاوف تتزايد من محاولة بعض الجماعات المهاجرة من بوابة الساحلَين الشرقي والأفريقي الشمالي للمتوسّط السيطرة على عواصم صناعة القرار السياسي الأوروبي. أما سعي بعض الجماعات لفرض عاداتها وتقاليدها، لا سيّما الدينية منها لعدم تقبّلها ثقافة المجتمعات التي احتضنتها والاندماج بها، فبُعد آخر للأزمة. نواقيس خطر كثيرة في أكثر من مكان.
هجرة وإرهاب واستبدال
رئيس المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، والباحث في الأمن الدولي والإرهاب، الدكتور جاسم محمد، يشير في حديث لـ»نداء الوطن» من ألمانيا إلى أن عملية فتح أوروبا أبوابها للهجرة غير الشرعية خلال العامين 2014 و2015، خصوصاً ألمانيا في عهد المستشارة السابقة أنغيلا ميركل، أدّت إلى ارتداد قوي في سياسات الهجرة واللجوء. ذلك يعود، بحسب محمد، إلى عوامل عدّة: أوّلها، تداخُل «الإرهاب» مع الهجرة، حيث وصلت عناصر داعشية وجماعات متطرّفة إلى أوروبا ونفّذت عمليات إرهابية، فيما تورّط البعض في الجريمة المنظّمة والجُرم الجنائي. ثم هناك نشر الإسلاموفوبيا (التحامل على المسلمين) عبر المنصات ووسائل التواصل الإجتماعي وغُرف الدردشة والتجمّعات والمسيرات. انتقالاً إلى مسألة الهوية، وجدت أوروبا في الهجرة واللجوء عاملَين يهدّدان ثقافتها. من هنا قام حزب البديل من أجل ألمانيا، مثلاً، بطرح مفهوم «الاستبدال». والمقصود أن موجات الهجرة ستعمل على استبدال مواطني أوروبا بالمهاجرين. العامل الثقافي، بدوره، لا يقلّ أهمية وهو بدا جليّاً حين قامت بعض الدول الأوروبية، ومنها ألمانيا وتحديداً مقاطعة بافاريا، بِرفع الصلبان داخل مؤسساتها ردّاً على موجات الهجرة وتأكيداً على أن الموضوع يتعلّق بثقافات الشعوب أكثر منه بالأزمات الاقتصادية.
بالعودة إلى نظرية «الاستبدال»، فهي تعني أن أغلبية الأوروبيين البيض أصبحوا معرّضين للخطر بسبب تنامي قدوم المهاجرين من المسلمين وأصحاب البشرة السمراء إلى القارة. محمد يقتبس في هذا الإطار كلام دومينيك كاسياني، مراسل الشؤون الداخلية في بي بي سي: «جوهر نظرية المؤامرة هذه يرتكز على أن شعوب أوروبا تنقرض، ويتم استبدالها بمهاجرين من ثقافة مختلفة أدنى وأخطر منزلة. ويعود جزء من هذه النظرية إلى أن الدول والشركات تشجّع الإبادة الجماعية للبيض من خلال رفع معدّلات الهجرة لمجرّد الحفاظ على الرأسمالية العالمية».
صراع الهوية يتأجّج
نكمل مع محمد ونسأل ما إذا كانت المجتمعات الأوروبية ستتمكّن من فرض معتقداتها الدينية على النازحين بحجة التكامل والدمج، فيجيب: «ذلك غير ممكن كون الكثيرين من مواطني أوروبا هم من أصول مهاجرة ولا يزالون يعيشون للأسف ضمن مجتمعات مغلقة، يتواصلون ويحتفلون في ما بينهم بمناسباتهم الدينية والاجتماعية. لقد فشلت دول أوروبا في سياسة التكامل الاجتماعي والدمج ذلك أن هذه السياسة تتعلّق بطبيعة المواطن الأوروبي ـ الأصلي أكثر مما تتعلّق بالدساتير. فالقانون شيء والحقيقة في الشارع شيء مختلف كلّياً». لكن ماذا عن محاولات السيطرة على عواصم صناعة القرار السياسي هناك؟ «محاولات التغيير من قِبَل نظرية «الاستبدال» واليمين المتطرّف هي بتصاعد ملحوظ. وهناك تزايد في شعبية هذه الجماعات اليمينية المتطرّفة. فبعد أن كانت محصورة في شرق أوروبا وشمالها، نراها اليوم تمتدّ إلى جنوبها، مثل إيطاليا وإسبانيا، وغربها، مثل ألمانيا والنمسا وفرنسا. وهذا يعني أننا سنشهد صعود اليمين المتطرّف في البرلمانات والبرلمان الأوروبي قريباً»، برأي محمد.
بعض الأحزاب التقليدية تحوّلت إلى استخدام ورقة الهجرة في الانتخابات لكسب الأصوات، وهي تحاول ألّا تخسر مقاعدها أو أن تذهب أصواتها لليمين المتطرّف. من هنا، كما يلفت محمد، ينبع التوجه نحو اليمين لدى غالبية الأحزاب والسياسات في أوروبا. وهذا سيؤدّي إلى تأجيج الصراع مع اليمين المتطرّف الذي يمكن وصفه بصراع «الهوية» المتمترس وراء الدولة القومية والعودة إلى الوراء. ثمة من يلمّح إلى مخطّط ممنهج خلف ما يحصل. ومحمد يعلّق: «لو تحدّثنا عن اليمين المتطرّف وبالتحديد الجناح السياسي وليس الشعبوي في أوروبا، فهناك خطط ممنهجة وتعاوُن وتنسيق بين أحزاب اليمين كما هناك منتديات ومؤتمرات واجتماعات لتنسيق المهام. أما التيارات الشعبوية أو التيارات اليمينية المتطرّفة، فهي غير منظّمة ورأيناها تعمل على انتقاد الحكومات خصوصاً إبان الأزمات، لا سيّما الاقتصادية منها، وخلال جائحة كورونا والحروب وأبرزها حرب أوكرانيا».
مهاجرون لم يهاجروا…
من ناحيته، يرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة كليرمونت في كاليفورنيا، الدكتور هشام بو ناصيف، أن المسألة الأساسية في موضوع الهجرة واللجوء تتمحور حول قدرة المجتمعات على استيعابها. فانتقال أشخاص من مجتمع لآخر أمر طبيعي، وغالباً ما يكون صحّياً، على أن تبقى الأعداد ضمن المقبول وبشرطَين أساسيَّين: الأول، قدرة اقتصاد المجتمع المضيف على توفير فرص عمل لهؤلاء. والثاني، استعدادهم لقبول قِيَم المجتمعات المضيفة بمعنى تماهيهم معها، لا تَوقّعهم بأن تتغيّر هي لأجلهم. ويضيف: «يؤدّي غياب أحد هذين الشرطَين إلى تعقيد الأمور أكثر، أما في غيابهما معاً فيصبح الوضع كارثيّاً. وقد تكون الحالة الفرنسية المثال الأقرب لغياب الشرطَين معاً».
بو ناصيف اعتبر أن ثورة وسائل الاتصال تساهم في تعزيز قدرة الجماعات المتطرّفة على إيصال أفكارها إلى قلب المجتمعات الأوروبية وتجنيد خلايا فيها. من جهة ثانية، يمكن أيضاً للمهاجرين المقيمين هناك التواصل اليومي الكثيف مع المجتمعات التي أتوا منها والتفاعل معها. «إذا ظهرت داخل هذه المجتمعات قوى تلوم الغرب على إخفاقاته السياسية والاقتصادية، فيمكن تَوقّع أن يتفاعل عدد كبير من المهاجرين مع هذا النوع من الخطابات. وفي ظلّ غياب أي إصلاح ديني في دول المصدر، سيبقى جزء لا بأس به من فئات المجتمعات المهاجرة عرضة للتأثّر بخطاب الحركات الأصوليّة في بلدانهم الأم حتى لو كانوا داخل الدول المضيفة»، كما يختم.
سقوط مفهوم «التعدّد»
الأمين العام لتجمّع «اتحاديون»، جو عيسى الخوري، يعود سنوات إلى الخلف عازياً بداية الهجرة إلى أوروبا إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث نشطت أعداد كبيرة من المهاجرين بغية إيجاد أماكن للعمل. وكانت دول غرب أوروبا – لا سيّما فرنسا التي استقطبت مهاجري المغرب العربي وألمانيا التي استقطبت مهاجري تركيا – من الدول المفضّلة للقيام بأعمال الترميم وإعادة بناء الاقتصاد المتضرّر. وفي السبعينات، راحت إيطاليا وإسبانيا تستقبلان أعداداً مماثلة من المهاجرين نتيجة التطور الاقتصادي وحاجتهما لأيدي عاملة من أفريقيا والشرق الأوسط. «حاولت هذه الدول تطوير مفهوم تعدّد الثقافات ظنّاً منها بأن محاولة دمج المهاجرين بالسكان الأصليين مهمة سهلة، لكنها فشلت. الهوية المتميّزة عن هوية السكان الأصليين خلقت نوعاً من العزلة لدى المهاجرين ما لبثت أن تحوّلت إلى احتكاكات بينهم وراحت تتفاقم حدّتها خلال الأزمة الاقتصادية».
سقوط محاولة إنجاح مفهوم تعدّد الثقافات، بحسب عيسى الخوري، عبّر عنه تزامناً كل من رئيس الوزراء البريطاني السابق، ديفيد كاميرون، والرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي، وميركل. «ما ولّد التطرّف اليميني المسيحي هو عدم تقبّل اللاجئين (المهاجرين) العيش مثل سكان البلد الأصليين، ويعود ذلك إلى أن ولاءهم لدينهم كان أقوى من ولائهم للوطن الذي حضنهم». وعن توقيت تحرّك بعض الجماعات تلك في دول دون أخرى، أكّد وجود تنظيمات عملت وخطّطت منذ زمن لتحقيق أهداف مسبقة، غير أن إشارة التنفيذ والتحرّك تُترك إلى حين تخطّي عدد هؤلاء اللاجئين 10% من عدد سكان الدولة الأصليين».
لبنان المسرح الدائم
كيف ينسحب – وسينسحب – ما يشهده مسرح الهجرة الأوروبي على الداخل اللبناني، لا سيّما مع تَفاقم نسبة النزوح وما شهدته وتشهده المخيمات السورية والفلسطينية على أراضينا من توتّرات مستمرّة؟ يقول محمد إن مشكلة المهاجرين واللاجئين ستتأجّج أكثر فأكثر لبنانياً، كون دول أوروبا ليست بوارد استقبال المزيد منهم في ظلّ انشغالها بحرب أوكرانيا وأزماتها الاقتصادية والسياسية. هي عملياً تدير ظهرها للبنان. والخيار الوحيد أمام اللبنانيين هو النهوض بمسؤولياتهم لحماية أمنهم القومي وعدم الاعتماد على الاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة.
أما بو ناصيف، فيعتقد أن مسألة النازحين السوريين في لبنان نموذج عن انتقال سكّاني فلت من عقاله دون قدرة للدولة المنهارة على وضع ضوابط له، رابطاً جذور المشكلة بالنظام السوري: «لولا عنف النظام بحقّ شعبه، لما انتقلت هذه الأعداد من السوريين إلى لبنان ولما بقي هو حاكماً في دمشق أصلاً. من الصعب تخيّل عودة جدية للاجئين إلى سوريا. فرأس النظام يريد سنّة أقلّ لا سنّة أكثر هناك، ولو توفّر له طرد أعداد أكبر منهم لما تردّد».
مفهوم تعدّد الثقافات قد يكون يترنّح جدّياً أوروبياً. لكنه ناجح في لبنان، من وجهة نظر عيسى الخوري. بيد أن الدستور الخاطئ لعب الدور الأبرز في نشوء الصراعات على أرضه، كما يضيف، منهياً: «هناك مجموعات مارست السلطة في حين أن أخرى شعرت بالتهميش والغبن. فرض المسيحيون سلطتهم بداية، تلاهم السنّة وها هم الشيعة يستلمون زمام الأمور من بعدهم. وإن دلّ ذلك على شيء إنما يدلّ على أن بلداً متعدّد الثقافات لا يمكن أن تحكمه سلطة مركزية». إلّا أن هذه معضلة لبنانية أخرى، مع أزمة لجوء وهجرة أو بدونها.