IMLebanon

حروب الأرض بدَّلت مسارات السماء

 

 

الطيور المهاجرة ضحيّة حربَين

 

 

أنهى تشرين الثاني نصفه الأول وما زالت أسراب الطيور مواظبة على الانتقال من الشمال إلى الجنوب، وتحديداً من أوروبا إلى أفريقيا مروراً بلبنان، هذا المسار يُعتبر خطاً رئيسياً لهجرة العديد من أنواع الطيور، بل هو أحد أهم الممرات العالمية، والأكثر نشاطاً في الشرق الأوسط. أكثر من ستمائة مليون طائر مهاجر تتوزع على ما يقارب المئتي نوع تمرُّ في كلّ موسم فوق الأراضي أو المياه الإقليمية اللبنانية. ليصل إجمالي عدد أنواع الطيور في لبنان بين مهاجر ومقيم إلى أكثر من أربعمئة نوع.

 

يقول الخبراء إن الهجرة الخريفية للطيور عادة ما تكون أقلّ تنظيماً من الهجرة الربيعية، لكن بحسب الدكتور ضومط كامل رئيس حزب البيئة العالمي، كلّ شيء تغيَّر هذا العام، المسارات، الأنواع، التوقيت، وكأن شيئاً غريباً يحدث في العالم. من خلال المراقبة تبيَّن أن طيوراً عديدة اتخذت لها مسارَ هجرةٍ غير الذي اعتادته في المواسم السابقة، ففي حين ندرت أعداد بعض الأنواع، ظهرت أنواعٌ أخرى كانت قد توقفت عن عبور الأراضي اللبنانية منذ أكثر من عشرين عاماً كـ»كيخن التفاح» و»طائر الخرشنة» وغيرهما. أهمية طائر الخرشنة أنه يُعتبر صاحب أطول رحلة منتظمة ومعروفة في عالم الحيوان، بحيث ينطلق من مناطق القطب الشمالي ويصل الى المناطق القريبة من القطب الجنوبي مروراً بالبحر الأبيض المتوسط.

 

راقب المختصون الطيورَ العابرة باهتمام زائد هذا العام. بحذر، ربما بقلق بسبب ما يحدث في فلسطين المحتلة وعلى حدودنا الجنوبية أو بخجل مما يحصل في سهولنا وشطآننا من مجازر بيئيّة، في ظلّ تراخٍ واضح من الوزارات المعنية، بالرغم من أن لبنان كان أحد الموقعين على الاتفاقية الأفريقية الأوراسية للحفاظ على الطيور المائية المهاجرة AEWA تحت إشراف برنامج الأمم المتحدة للبيئة بتاريخ 16 حزيران 1995. واتفاقية حفظ أنواع الحيوانات البريّة المهاجرة (تشمل الطيور) CMS، التي أقرّ مجلس الوزراء اللبناني الانضمام إليها في جلسته المنعقدة بتاريخ 16 أيار 2018، بعدما كانت قد أُبرمت في العام 1979 في بون – ألمانيا، أيضاً برعاية برنامج الأمم المتحدة للبيئة.

 

رحلة الطيور، تأتي بشكل روتينيّ وبتوقيت دقيق كل عام. تتحكّم بها عدة عوامل، ولها عدة أسباب. أما هذه التغييرات الطارئة فيعزوها الدكتور كامل الى سببين، الحرب الأوكرانية الروسية التي كانت لها أيدٍ ظاهرة فيها، وللتغيُّر المناخيّ أخرى خفيّة تعبث بالمواقيت البيولوجية للطائر.

 

لكن قبل الانغماس في هذا الموضوع، دعونا نوضح، أيّ الطيور هي المهاجرة، ولماذا تهاجر؟

 

تسمى طيوراً مهاجرة Migratory birds تلك التي تنتقل من مكان الى آخر في أوقات منتظمة وتقطع في معظم الأحيان مسافات طويلة. وللطيور ثلاثة أنواع من الهجرة:

 

النوع الأول: هو الانتقال من مكان الى آخر ضمن بيئة مناخية واحدة بهدف التزاوج، أو التفقيس، أو البحث عن الطعام ثم العودة. الطيور التي تعتمدها هي من ذوات الأجنحة الشمعيّة التي لا يمكنها الطيران الى أماكن بعيدة.

 

النوع الثاني: الهجرة غير المنتظمة، وتكون عندما تضطر الطيور الى ترك مواطنها بسبب فقدان الغذاء، أو بسبب ظروف مستجدة، طبيعية أو غير طبيعية، كالحروب أو الحرائق أو التلوث الضوضائي.

 

النوع الثالث: هو نوع الهجرة الذي يعنينا الآن، حيث يقطع الطائر مسافات بعيدة ثم يعود الى موطنه.

 

مساراتها تحدّد مصيرها

 

هجرة الطيور حدثٌ موسميٌّ دائم التكرار متجذّر في جينات الطائر المهاجر، وقد خلق لديه نزعة وراثية الى الانتقال. نشأت هذه النزعة بسبب عدة عوامل، أهمها: ندرة الطعام في منطقة معيّنة نتيجة تبدّل المواسم، البحث عن مواصفات مناخية ملائمة، البحث عن أماكن ملائمة للتزاوج وبناء الأعشاش، وأحياناً لمعالجة الأمراض أو للتخلص من الطفيليات.

 

تلتزم الطيور بمسار واضح في ذاكرتها، وهنا لا نعني أنها خاضته في العام الماضي، إنما يكون مرتسماً في ذاكرتها الوراثية، وقد لاحظ المراقبون أن الفراخ تصل أحياناً الى وجهتها قبل أمهاتها التي خاضت التجربة في موسم سابق. تُوجّهها عدّة عوامل، أهمها: استشعار المجال المغناطيسي للأرض، الظروف الجويّة، الرياح، توقّع توافر الغذاء، العوامل الجيولوجية.

 

يُعتبر اختلاف طول الليل والنهار وفروقات درجات الحرارة عاملين أساسيين في تحديد موعد الانطلاق، وقد ذكر لنا الدكتور كامل أن أحد سببيّ تأخر الهجرة هذا العام يعود الى التغيُّر المناخي، فدرجات الحرارة بقيت حتى النصف الأول من تشرين الثاني أعلى من معدلاتها، لذلك لا يستغرب أن تستمر الهجرة الى الأيام القادمة. هذا بالإضافة الى عدة عوامل أخرى مثل حلول موسم التزاوج ونقص الطعام وغيرها.

 

 

تُعتبر الهجرة المنتظمة من المؤشرات البيئية الصحيّة على الكوكب، فانتظامها دليل دامغ على سلامة الطبيعة، أهم فوائدها: الحفاظ على التوازن البيئي ودورة الحياة النباتية السليمة، الحدّ من تكاثر الحشرات والقوارض، تنشيط السياحة البيئية في الدول المضيفة، بالإضافة الى أنها تحمي الطيور ذاتها من الأمراض والطفيليات.

 

أما مضارها، فيقتصر على نقل بعض الأوبئة أو الطفيليات الى مناطق جديدة في بعض الأحيان. لكن تأثيرها لا يُذكَر أمام فوائدها الكبيرة والثمينة لحياة الكوكب المأهول.

 

على خطوط النار

 

يعتبر الصيد الجائر من أكبر المخاطر التي تهدد الطيورالمتعبة. وما هو معروف أن للطيور مسارين محددين فوق الأراضي اللبنانية، الأول فوق الساحل، تسلكه الأنواع التي تتغذى على الأسماك وبعض الأنواع الصغيرة كالسمّن وغيرها، والثاني فوق الجبال، تتخذه الطيور الجارحة والكبيرة كالبجع وغيره لتستفيد من الرياح القوية في توفير طاقتها.

 

جرّاء عوامل طارئة تغيّر الطيور مساراتها لتنتشر بشكل عشوائي فوق جميع الأراضي اللبنانية، وهنا تبدأ معاناتها. بنادق لا ترحم، تزغرد مثل حفلات الانتصار الأرعن فوق جثث الأبرياء، فتهوي كثيراتٌ منها مصابة أو ميتة. وكأنها شهيدات غدر في حروب إبادة.

 

لا يخفي محمد زهير صبيدين العضو المؤسس في المجلس الأعلى لمجموعات الصيد البري، عتبَ الصيادين المحترفين على وزارة البيئة، فحين نأت بنفسها عن واجباتها حلَّت الفوضى وارتفع منسوب الخطر. برأيه الأمر لا يتطلب سوى بعض الاهتمام والمتابعة الجديّة.

 

بحسب الإحصاء التقريبي للمجلس الأعلى لمجموعات الصيد البري أن في لبنان أربعمئة ألف حامل بندقية، ينقسمون الى ثلاث فئات: صيادون محترفون، هواة وجُناة. وتقع على عاتق وزارة البيئة حماية الطيور من الفئة الأخيرة بالتعاون مع المجلس الأعلى للصيد البري والقوى الأمنية.

 

يُقتل في لبنان ما يقارب الألف طائر حوّام. تلك الطيور لا تؤكل، لكن الحال تبدَّل بعد الأزمة الاقتصادية وباتت الحوّامة مصدراً رخيصاً للحم تتصدّر موائد الأسر الفقيرة، رغم ما تحمله من مجازفة صحيّة.

 

أما عن مخاطر الحروب على الطيور المهاجرة، فالحرب لا تقتلها بشكل مباشر، لأنها لا تقترب من الأصوات المدويّة، بل تستشعر الخطر من أماكن بعيدة وتغير مسار رحلتها، وهنا يكمن خطر جديد. لقد سبق وذكرنا أن الطيور تحدد طريقها سلفاً، تختاره بناءً على معطيات طبيعية وتلتزم به، فإن ابتعدت عنه يعني أنها ابتعدت عن خطّ السفر الآمن ذي العناصر الضرورية كالرياح وموائل الغذاء والماء، فيصبح أملُ وصولها ضئيلاً جداً.

 

من جهة أخرى، يمكن لأصوات المتفجرات والمدويات أن تقتلها في أماكن استراحتها دون أن تصيبها، جرّاء الهلع الذي تسببه، أو لأنها تحرمها الراحة والنوم. هذا بالإضافة الى التلوث، أوالتسمم الذي تنشره بعض القنابل كتلك المستخدمة من قبل العدو الاسرائيلي. وقد سجَّل المراقبون عودة طيور كثيرة بعد اندلاع حرب غزّة، أو ما عُرف بـ»طوفان الأقصى» في رحلة عكسية من الجنوب الى الشمال، حيث استقرت أعداد كبيرة منها في لبنان، مُشَكّلةً زيادة غير مسبوقة في إقامة طيور مهاجرة.

 

الجدير بالذكر، أن الخطر على الطيور المهاجرة لا يقف عند فوهة بندقية آثمة أو عند مدفع يرتكب المجازر، بل يتعداهما الى عدة مخاطر، ويقول الخبراء أن 60% من الطيور تنفق قبل عودتها الى موطنها الأساسيّ، فبعد الصيد الجائر والحروب تُسجَّل المخاطر التالية: الرشّ العشوائي للمبيدات، التلوّث، نقص الغذاء، المفترسات، شبكات الكهرباء، فقدان المساحات الخضراء.

 

قيمة بيئية يجب حمايتها

 

تعتبر حملات التوعية عاملاً مهماً للحد من قتل الطيور، وقد أخذت المنظمات غير الحكومية ومجموعات الصيادين المحترفين على عاتقها إقامة حلقات المناقشة والندوات التوعوية. وبحسب صبيدين، إن افتتاح وتنظيم موسم الصيد البري، الذي لم ينطلق رسمياً هذا العام، كان ليلعب دوراً رئيسياً في الحد من الصيد العشوائي، الى جانب تمويل مزارع الصيد البري لإطلاق أنواع مسموح بصيدها. ثم ترشيد رش المبيدات ومنع استيراد الشباك والمسجلات التي تقلّد أصوات الطيور.

 

ويبقى تفعيل دور الأجهزة الأمنية وملاحقة المخالفين هو الأهم، لا سيما أنهم يقترفون جرمين: جرم إطلاق النار من أسلحة غير مرخصة تهدّد سلامة المواطنين، وجرم الصيد الجائر.

 

لقد وضعت الحكومة اللبنانية خطة طوارئ في حال اندلاع حرب محتملة مع العدو الاسرائيلي. هل أدخلت وزارة البيئة عليها بنوداً خاصة لحماية بيئة لبنان؟

 

في النهاية، قد يتساءل القارئ ما سبب اهتمامنا بالطيور الآن وآلاف المدنيين يُقتلون ظلماً على بعد عدة نَبَضات منا؟ وجوابنا أن حماية البيئة هي حماية للأجيال المقبلة، فإن خسر الطائر معركته الوجودية لا بدّ لميزان التوازن الطبيعي من أن يختلّ فيجرُّ الكوارث على البشر. الحرب ليست خياراً يمكننا التحكم به، أما قتل الطيور فلا يكون إلا عن سابق تصور وتصميم.