لا جدال حول صعوبة الواقع اللبناني الذي يئنّ تحت وطأة الاهتزازات المتلاحقة، لكن الواضح ايضا ان لهذه الاهتزازات حدوداً لن تبلغها. والمقصود هنا ان لبنان لن يصل الى مرحلة التحلل الكامل. فالازمة الحكومية انتهت بتسوية خارجية أنتجت حكومة نجيب ميقاتي بعد معاناة مريرة لأكثر من سنة، والحرب «الصغيرة» التي دارت في الطيونة والتي تسابق فيها «المستثمرون» الداخليون لتحقيق «مكاسب» سياسية ضيقة، أجهضتها العقوبات الاميركية الاخيرة والتي جاءت مشبعة بالرسائل الحازمة.
وفي هذا السياق جاءت زيارة قائد الجيش العماد جوزف عون لواشنطن واضحة الدلالات، فالبرنامج كان حافلاً بلقاءات مميزة ولافتة، وهو ما لم تحظ به اي زيارة لقائد جيش الى واشنطن منذ فترة طويلة.
لا بل لم تحظ به اي شخصية سياسية او حتى رسمية منذ أمدٍ طويل. واليوم، وعلى رغم صعوبة الازمة الديبلوماسية القائمة مع السعودية وحِدّتها، فإن المراقبين يراهنون على حل ما سيحصل ولو ان الازمة ستأخذ مداها المطلوب كونها متداخلة في العمق مع اللهيب المتصاعد من ساحة المعركة في مأرب اليمنية.
رئيس الحكومة نجيب ميقاتي عاد مرتاحاً جداً من الخارج بعد جرعات دعم وتطمينات تلقاها من المسؤولين الدوليين الكبار الذين اجتمع بهم. اساساً، تعاني الطبقة السياسية اللبنانية ابتعاد المسؤولين الدوليين عنها، وبالتالي فإن حجم لقاءات ميقاتي خلال وجوده في المؤتمر الدولي للمناخ، يُعد استثناءً لمسار السنوات الاخيرة. وهذا يعني ان الازمة على حدّتها لن تطيح الحكومة لأن المطلوب دولياً ليس دفع البلاد في اتجاه المجهول الاسود بل هنالك مهمات مطلوبة لا بد ان تحصل من خلال برنامج عمل الحكومة، كمثل التفاهم مع صندوق النقد الدولي والاصلاحات وملف الكهرباء واجراء الانتخابات النيابية رغم الألاعيب التي تمارسها الطبقة السياسية للهروب من هذا الاستحقاق. ولكن وفي الوقت نفسه، فإن هذا لا يعني ان الحكومة ستعود قريباً الى الانعقاد، ثمة مسائل لا بد من حلها وهو ما سيتطلب بعض الوقت، خصوصا ان المناخ الاقليمي المتشنج يدفع في اتجاه حصول هذه الاهتزازات على الساحة اللبنانية. لا حاجة لتكرار أن المرحلة هي مرحلة اعادة رسم الخريطة السياسية في الشرق الاوسط وايران هي طرف اساسي. فالازمة الحكومية في لبنان انفجرت على وقع التطورات العسكرية في مأرب. خلال المرحلة الماضية كانت المفاوضات الايرانية ـ السعودية قد ادت الى تبريد هذه الجبهة، لكن الامور انفجرت فجأة وبدت المنطقة التي تمثل اولوية امنية واقتصادية للسعودية مهددة بالسقوط بيد الحوثيين. البعض فسّر ما يحصل بأنه لتعزيز اوراق ايران التفاوضية من خلال فرض واقع ميداني على الخريطة السياسية الجديدة للمنطقة. هذا ما ادى الى اهتزاز الوضع في لبنان مع طرح الدول الخليجية النقطة المتعلقة بإمساك «حزب الله» بمفاصل السلطة في لبنان.
وقيل ان سلطنة عمان تعمل لإعادة تنشيط قنواتها للتوسط بين ايران والسعودية، لكن الامور لن تكون بهذه السهولة او السلاسة.
فوسط المشكلات الداخلية التي تعانيها ادارة بايدن، والتي سجلت تراجعاً في شعبية الحزب الديموقراطي خصوصا مع وصف ادائها وسلوكها بالضعيف، فإنّ توجهاً جديداً بدأ يظهر داخل هذه الادارة يدعو الى سلوك آخر مع ايران ويمكن استثماره في الداخل الاميركي في وجه خصوم الادارة.
وفي هذا الاطار قال دينيس روس، وهو الموفد الرئاسي السابق الى الشرق الاوسط والخبير في شؤونه، ان طهران لم تعد تأخذ واشنطن على محمل الجد، لذلك من الضروري على ادارة بايدن ان تعيد مجددا وضع احتمالات التصعيد العسكري على الطاولة اذا كانت تأمل في إحراز تقدم في شأن الملف النووي.
وروس، الذي ينتمي الى الحزب الديموقراطي، ليس وحده من يطلب من ادارة بايدن وجوب عرض عضلاتها كمدخل الزامي لمنع طهران من استهلاك الوقت قبل العودة الى الاتفاق النووي.
وخلال الايام الماضية حلقت طائرة استراتيجية تابعة للقوات الجوية الاميركية فوق البحر الاحمر ومضيق باب المندب وقناة السويس، واعلنت القيادة العسكرية الاميركية ان طائرات مقاتلة من البحرين ومصر والسعودية واكبت تحليقها.
وفي الوقت نفسه بدأت قوة خاصة من مشاة البحرية الاميركية بإجراء تدريبات عسكرية مشتركة مع الجيش الاسرائيلي في اسرائيل، وهي الاولى من نوعها والوحدة الاميركية تدعى TASKE – FORCE – 51، وهي قوة تدخّل سريع تجري تدريباتها قبل نشرها في الخليج.
وعلى خط موازٍ بدأت تظهر خلافات بين ايران وروسيا في شأن المفاوضات النووية، وبدأت موسكو توجه انتقادات الى طهران بسبب سلوكها تجاه المفاوضات النووية وذلك للمرة الاولى منذ الانسحاب الاميركي من الاتفاق النووي عام 2018.
لكن ايران تدرك أن عرض العضلات الاميركي له حدود يقف عندها، فحساسية ادارة بايدن ترتكز على ضبط النفس والانسحاب من ساحات الحروب لا فتح حروب جديدة. وبالتالي، فإن التهديد الاميركي باللجوء الى خيارات اخرى لن يعني بالضرورة استخدام القوة العسكرية التقليدية. اضف الى ذلك ان التلويح الاسرائيلي باحتمال ضرب المنشآت النووية الايرانية لا يبدو سهلا، وقد يكون نابعا من تراجع شعبية حكومة نفتالي بينيت المهددة بخسارة مدوية في حال الذهاب الى انتخابات مبكرة.
ويقول دينيس روس ايضا ان بوتين يدرك أنه اذا شعرت اسرائيل بأنها مضطرة لضرب ايران فإن «حزب الله» والميليشيات الشيعية في سوريا سيوجهون عشرات الالوف من الصواريخ والطائرات المسيرة في اتجاه اسرائيل، وهو آخر ما ترغب به موسكو في أن تكون عالقة وسط نزاع من هذا النوع.
الغالب ان ادارة بايدن، المحشورة بوجوب القيام بشيء ما، قد تذهب في اتجاه اعادة احياء ما عُرف بديبلوماسية «الدرون»، او القيام بهجمات سيبرانية على غرار ما حصل منذ نحو اسبوع حين حصل هجوم سيبراني على نظام توزيع محطات الوقود في ايران.
وهو ما يعني ان واشنطن في حال ذهابها الى خيار استعراض عضلاتها، ستُحاذِر اي خطوة متهورة قد تدفع بها الى مواجهات عسكرية مباشرة، الا في حال استدرجت من حيث لا تدري بسبب خطأ في الحسابات ولو ان هذا الامر احتمالاته ضئيلة. وهذه القراءة تعني أن لبنان سيعيش حال المراوحة وسط اهتزازات متنقلة، وهو بالضبط ما يشهده منذ فترة.
ووفق ما تقدم، فإن الاستنتاجات تشير الى صعوبة «تطيير» الحكومة وهو ما يعني انها لن تستقيل، وتحديداً المكوّن الشيعي فيها. وقد يكون الافضل العمل على ايجاد مخارج هادئة تخفف من قوة الاهتزازات الاقليمية التي تصيب لبنان.
قيل ان الوزير جورج قرداحي يرتكز في موقفه على نقطتين: الاولى أن لا تؤدي استقالته الى فرط الحكومة خشية ان يتقدم وزراء آخرون باستقالتهم، والثانية ان تكون استقالته في حال تقدم بها، مضمونة لجهة عودة الامور مع الدول العربية الى ما كانت عليه قبل وقوع الازمة. لكن فُهم في هذا الاطار ان الضغوط الاميركية التي مورست على السعودية أنتجَت وقف خطواتز التصعيد الخليجية ضد لبنان، لكن في مقابل ايجاد تدبير ما او مخرج على مستوى وضع الوزير قرداحي الا انه في الواقع ثمة شيء أبعد واعمق، والمقصود هنا عمق النزاع الاقليمي في مرحلة التحضير لإعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة.