في التكليف أجمعت قوى السلطة على تمريره، لكنها تفرقت على التأليف، ونصب كل طرف أفخاخه، وقبل الدخول في تفاصيل الأفخاخ والأفخاخ المضادة، نجح سفير لبنان السابق لدى الأمم المتحدة الدكتور نواف سلام بسحب بساط المشروعية الشعبية من التكليف والمكلف الذي وافق على مهمته من دون الالتفات إلى المعايير التي رفعتها «انتفاضة 17 تشرين» وعبّر عنها نواف سلام كشروط مسبقة لقبوله التكليف.
فقد أدرك نواف سلام مبكراً أن الحدث عن تسميته أو تكليفه أقرب إلى مناورة كيدية من بعض أطراف السلطة، تهدف إلى إحراجه سياسياً وشعبياً في زاوية التواطؤ في إعادة تعويم السلطة والتغطية على فسادها وجرائمها.
عملياً سقط المكلف نجيب ميقاتي في امتحان المعايير والشروط، لكنه يعرف أن تكليفه أشبه بانقلاب مضاد قامت به المنظومة مستخدمة ما تعدها شرعية دستورية تعوّض لها خسارتها للمشروعية الشعبية، لذلك استجاب ميقاتي لمهمة إعادة تعويم السلطة وإعطائها مزيداً من الوقت حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود على المستويين الإقليمي والدولي.
حديث رئيس الوزراء المكلف نجيب ميقاتي عن وعود أو ضمانات دولية وإقليمية لم يزل مبهماً، والملاحظ حتى الآن البرودة العربية والصمت الخليجي حيال تكليفه، أما دولياً فإن باريس وحدها تشكل الداعم الأول في اختياره تحت ذريعة تمسكه بتنفيذ المبادرة الفرنسية، والجدير ذكره أن هذه المبادرة، التي خسرت أكثر من 10 أشهر من الوقت بين تكليف مصطفى أديب واعتذاره ومن ثم سعد الحريري واعتذاره، لم يعد بإمكانها القيام بأقل ما يمكن من الإصلاحات التي خطط لها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أثناء زيارته لبيروت بعد فاجعة المرفأ.
قبل عام تقريباً ترجل الرئيس ماكرون في شوارع العاصمة المنكوبة وارتجل حلاً أو حلولاً لا تمتّ إلى الواقعية بصلة، فقد حاول استغلال الفاجعة للضغط على المنظومة لكنها تمكنت من استدراجه إلى ملعبها، ونجحت في تسويف الوقت واستهلاك الأشهر العشرة التي ضاعت بالبحث عن شكل الحكومة الإصلاحية وطبيعة أعضائها، وضاعت معها المبادرة الفرنسية في التجاذبات والتناقضات الداخلية اللبنانية، حتى خسر ماكرون فرصة توهمها وأعتقد أنه قادر على فرض حكومة اختصاصيين أو خبراء تترأسها شخصية من خارج الطبقة تقوم بما يلزم من الإصلاحات غير الشعبية، ثم تعيد تسليم السلطة للمنظومة السياسية بعد انتهاء مهمتها، فقد كانت أهواء دعاة الحل المعلّب تتصرف كأنها قادرة على تحسين سلوك الطبقة السياسية والحد من فسادها واحتكارها للدولة والثروة.
لكن ما لم تدركه باريس وكل الأطراف الداعمة لتكليف نجيب ميقاتي، أن تفاهم الطبقة السياسية وإن حصل على التأليف، فهو لا يتعدى لتفاهم ضمني على ضرورة أن تشرف هذه الحكومة على الانتخابات النيابية، والمطلوب من الحكومة العتيدة أن تقدم بعض الرشى الانتخابية لجمهور الطبقة السياسية من خلال زيادة في النفقات إضافةً إلى وضع اليد على منحة البنك الدولي لتمويل البطاقة التموينية التي ستسيطر عليها أحزاب السلطة وتستغلها انتخابياً.
على الأرجح أن يكون التأليف مرتبطاً بإجراء الانتخابات وليس الإصلاحات، والمعركة الانتخابية تشترط أن تستعيد بعض الأطراف حضورها الشعبي وأن تحقق جزءاً من شعاراتها ومطالبها، لكنّ هذه المطالب والشروط كفيلة بأن تفجر التفاهمات الهشة كافة التي سبقت التكليف، وتكشف حجم الأفخاخ التي نُصبت على طريق التأليف. فالجماعة الموالية للمقيم بقصر بعبدا لن تعطي لميقاتي ما رفضت أن تقدمه للحريري وتحديداً وزارة الداخلية. أما ميقاتي فهو حتى الآن لا يستطيع التنازل عن السقف الذي وضعه الحريري، أما طامة ميقاتي الكبرى أنه حظي بتأييد علني من «حزب الله»، الأمر الذي سيضع علامة استفهام كبرى داخلياً وخارجياً على حكومته.
وعليه لا يحظى التأليف بالسرعة التي حظي بها التكليف وما بينهما التزامات بسرعة إنجاز مهمة شبه مستحيلة باتت في سباق مع الزمن، ويفصلها عدة أيام عما تعدّه المعارضة لذكرى يوم 4 أغسطس (آب) وما بعده.