عندما يعجز الداخل ويتردّد الخارج في البحث عن المخرج الآمن للعقدة الحكومية «المتحورة»، تنحو القراءات إلى البحث عن نوع الفيروسات التي اصابتها، وتحديد الأكثر تأثيراً وخطورة من تسبب بتفشيها. ففي اعتقاد المراقبين، أنّ طالما القانون والدستور قد وضعا على الرف، فإنّ البحث عن العلاج لهذا «المتحورالحكومي» بات معقّداً، لتبقى البلاد غارقة في بحر من الفيروسات المتعددة. فكيف السبيل الى شرح هذه النظرية؟
لم يحصل من قبل ان تشابكت الأزمات وتناسلت الى الحدّ الذي لم يتمكن احد من اللحاق بها، إلى درجة عدم القدرة على استيعابها وإحصائها. فمع صباح كل يوم، ومن اسبوع الى اسبوع، تلاحق ظهور العِقَد واحدة بعد أخرى بطريقة متناسلة توالدت من بعضها بعضاً. فقبل ان يستوعب اللبنانيون تداعيات الأزمة النقدية والمالية التي نشأت على وقع التطمينات من قدرة القطاع المصرفي على الصمود واستيعاب الأزمة وتجاوزها، وصلت طلائع جائحة كورونا الى لبنان بعدما غزت العالم. وفي الوقت الذي تسببت فيه بإغلاق غير مسبوق بين الدول والقارات، جاءت نكبة مرفأ بيروت في 4 آب، لتزيد من آلام اللبنانيين ونكباتهم.
ولما كان العالم منشغلاً بنتائج النكبة الانسانية والإقتصادية والاجتماعية، بدأ عهد الشلل الحكومي، فأمضى اللبنانيون 14 شهراً بحثاً عن حكومة يمكن ان تفرمل الانهيارات وتحيي عمل المؤسسات الدستورية، فيكتمل عقدها وتنتظم العلاقات في ما بينها، على امل ان تلجم ما يمكن لجمه. وعلى الرغم مما وفرته «المبادرة الفرنسية»، وما نالته من عناية عربية وغربية ودولية من غطاء لتشكيل الحكومة، فقد ولدت في نهاية المطاف بطريقة ملتبسة، خالية من كل ما حَبل به «رحم المبادرة الفرنسية» وما قالت به الملاحظات الأممية والدولية. وعلى خلاف ما حملته من اسم «معاً للإنقاذ»، فقد تسببت الأزمات المتتالية بسقوطها بـ «الضربة القاضية»، ولم تكن بعد قد دخلت الشهر الثاني على ولادتها. فاختل التوازن مجددًا ضمن السلطات الدستورية، وتعقّدت الأمور نتيجة الخلاف على الصلاحيات والأدوار. والدليل برز عند إصرار وزراء «الثنائي الشيعي» على تدخّل السلطة التنفيذية ممثلة بمجلس الوزراء، في مجريات عمل السلطة القضائية، من أجل الإطاحة بالمحقق العدلي طارق البيطار. ولم تقف الامور عند هذا الحدّ، فقد ولّد الاحتقان أحداث الطيونة وعين الرمانة، التي أحيت في عقول اللبنانيين المخاوف من ايام سود، وشهد القضاء عاصفة من دعاوى الردّ وكف اليد والإبعاد لم يشهدها من قبل.
كان ذلك، قبل ان تأتي تصريحات وزير الاعلام جورج قرداحي بالأزمة الديبلوماسية بين لبنان والمملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، لتتوّج مجموعة الأزمات التي كانت تتفاعل بمقدار كبير وتنحو بالوضع الحكومي الى الأسوأ. وبدل ان يشكّل المخرج القضائي الذي تمّ التوصل اليه مفتاحاً لاستعادة الحكومة اجتماعاتها، أُضيفت ازمة وزير الاعلام اليها عقدة أخرى مضافة، وظهر واضحاً انّها الأصعب، ليس بسبب حجمها وماهيتها على الساحة اللبنانية، بل لأنّها شكّلت انعكاساً خطيراً لما بلغته الازمات الاقليمية والدولية على الساحة الداخلية من احتقان. وقد ثبت انّ الساحة اللبنانية تحوّلت مسرحاً للنزاع الاقليمي والدولي القائم في المنطقة، ملحقة بالساحات العراقية واليمنية والسورية، لمجرد ربطها بالأزمة السعودية ـ الإيرانية وأحداث اليمن، فارتفعت العوائق مداميك عالية حالت دون إحياء الحكومة، في زمن يحتاج البلد الى حكومة تعقد جلسات مفتوحة لمواجهة كمّ من الملفات المعقّدة.
على هذه الخلفيات تحدث المراقبون عن «المتحور الحكومي» الناشئ عن مجموعة الأزمات هذه، فهي التي التقت على تجميد وتعطيل الحكومة، والتي لم يعد يعرف اهل الحكم والحكومة، ولا سيما رئيسها، من اين يمكن البدء بتفكيكها. ففي ظل عدم التزام الوزراء الشيعة بالتفاهم الذي ادّى الى وضع أزمة قاضي التحقيق العدلي في حضن وزارة العدل والسلطة القضائية، فإنّ فك أسر الحكومة بات محكوماً بالنسبة الى رئيسها بأزمة وزير الاعلام، الى ان يقدّم استقالته طوعاً او إقالته، وباتت الحلول لمختلف العِقد رهن الترابط الذي قام بين بعضها، الى درجة معقّدة لا يمكن تفكيك عراها. فإلحاق الأزمة الديبلوماسية مع الرياض ودول الخليج بأزمات المنطقة الاقليمية، وتحديداً مع ايران، جعل آلية الحل رهن حلحلتها، وباتت الحاجة ملحّة الى انتظار ما تسفر عنه الجهود الدولية المبذولة لحلها، أو فصل ما يجري على الساحة اللبنانية عنها ـ إن نجحت بعض المحاولات الخارجية والداخليةـ ولو مؤقتاً واستثنائياً لإبعاد تداعيات الأزمة الكبرى على الوطن الصغير المنهك. وهو امر ظهر حتى لحظة كتابة هذا المقال انّه صعب المنال، في ظل اعتقاد المحور الإيراني انّه المنتصر في هذه المعركة ولا يمكن السماح بأي خطوة تشكّل دعسة ناقصة تعطي الخصوم نَفَساً ما، أياً كانت النتائج المترتبة على الساحة اللبنانية وغيرها من الساحات الملتهبة الاخرى.
ولا تكتفي المراجع الديبلوماسية والسياسية المطلعة على أدق التفاصيل بتأكيد صعوبة المرحلة وخطورتها وما يمكن ان تقود اليه. فكل السيناريوهات مظلمة وسلبية وقد تكون أشدّ صعوبة مما شهدناه حتى اليوم. فالبلد المريض يعاني من «اشتراكات» غير مسبوقة نتيجة تفاعل مجموعة «الفيروسات» المختلفة الأشكال والأنواع التي تغلغلت في الجسم النحيل، إلى درجة بات فيها البحث عن أصلها وسببها الأساسي مهمة صعبة لا يمكن ان تنتهي الى اي نتيجة.
وعليه، فإنّ معاينة ما اصاب لبنان من ازمات لم يعد امراً عادياً. فالعجز الداخلي عبّرت عنه مختلف المواقف الى درجة «رفع فيها المعنيون العشرة». فالبلد محكوم من خارج المؤسسات الدستورية التي وإن تعطّل أداؤها فهي عاجزة عن مواكبة أصغر الأزمات واقلّها خطورة. فكيف إن بات البلد رهناً بما يمكن ان يؤدي الى المواجهات الكبرى التي جُنّدت لها الطاقات غير المتوافرة على الساحة اللبنانية. فالعالم منهمك بقضاياه الداخلية والخارجية، والعلاقات بين المؤثرين على الساحة الداخلية بلغت مرحلة من التعقيدات رفعت لبنان عن أولويات لائحة اهتماماتها نتيجة تهرّب اللبنانيين من تعهداتهم ولجوئهم إلى تجاوز المبادرات الدولية واحدة بعد أخرى بعد لبننتها وإدخالها في الزواريب الداخلية، فعطّلت مراميها وقطعت الامل من إمكان تخفيف الآلام الناجمة عنها.
وبناءً على ما تقدّم، لا يمكن للمراقبين سوى إعطاء التوصيف الطبي للمرض اللبناني من أجواء الوباء الدولي، فمنحت العقدة الحكومية صفة «الجائحة» التي تعدّدت مصادرها وانواعها المتحورة، والتي تغلغلت في الجسم اللبناني، فأحدثت اشتراكات عجز الطب الداخلي عن الفصل في ما بينها ومداواتها والتخفيف من أوجاعها، كما الوصفات الطبية الدولية المجمّدة صلاحياتها، والتي علينا انتظار نتائجها لبلسمة الأوجاع في انتظار عبور مواعيدها الطبيعية الموزعة بين عواصم الخليج والقاهرة والفاتيكان وبغداد قبل بيروت. وهي امور ستبقي لبنان معلقاً على خشبة الأزمات، تمعن فيه الفيروسات المختلفة فتكاً الى ان يقضي الله أمراً كان مفعولاً.