أُسُس هذا البلد المنكوب، تداعت وتحطّمت بما فيه الكفاية ليجرؤ الجميع، في الداخل والخارج، على التصرف القاطع، بأن دولتنا «العليّة»، قد أصبحت دولة من حضيضٍ سحيق، وأنّ شعبها غاطس حتى الإختناق، في نار جهنم (مع «الإعتذار» لاستعارتنا الدائمة لهذا التعبير الذي أطلقه فخامة الرئيس وسوّقه للإعلام بوقائعه ونتائجه، رئيس التيار الوطني الحر الذي انتفض مؤخرا على من يستخفّ ببعض الصفات التي أطلقها التيّاريون على أنفسهم، مثال ذلك صفة الرئيس القوي، والقول المشهور: ما خلّونا)، فضلا عن استهجان رئيس التيار لواقعة متداولة بشمولية وتأكيد، بأن لبنان غاطس في غياهب الإحتلال الإيراني، وأن التيار سيتصدّى لهذا الإحتلال بعد أن يثبت فشل الآخرين في التصدي له!؟ وقائع من العجب العُجاب، ولكن، ما لمسناه من أحداث إنتخابية نقابية مؤخرا (إنتخابات نقابة أطباء الأسنان)، فيه من المستجدّات الخارقة للنطاق الديمقراطي والأخلاقي ولأصول التعامل المتطورة هبوطا إلى درجة لم تعرف هذه البلاد التي عُرفت بحضارتها ومسلكيتها الرصينة بما يجعلنا ننتفض أمام تلك التصرفات التي نسفت العملية الإنتخابية وكسّرت صناديق الإقتراع بعد أن عطلت عملية الإنتخاب الإلكتروني ونثرت أوراق الإقتراع على الأرض تدوسها الأقدام وتواكبها أعمال القمع والشتم وخلط الحابل بالنابل، والإقتراع الديمقراطي بالعنف المانع والرّادع!
هو حدث ربما كان صغيرا في حجمه ووقعه في نظر البعض، ولكنه، بالنسبة لوطن متحضر ومواطنين لم يألفوا تصرفا بهذا الهبوط الإنحداري، أمر لا يمكن إلاّ أن نتوقف عنده مطلقين جملة من التساؤلات الهامة التي تنذر بوادرها بتوقعات غاية في الجدّية وفي حجم التوقعات التي قد تكون منتظرة من قبل القائمين بمثل هذه التصرفات المؤسفة.
ونتساءل: أهي نموذج لما يمكن أن تكون عليه حال الإنتخابات النيابية المقبلة (في حال حصولها)؟ أهي تحذير بأن المسيرة الديمقراطية يمكن قلبها وقبعها وتحطيم آلياتها والدوس على أوراق اقتراعها في أية مناسبة لاحقة، قد تبدأ صغيرة الحجم كما حصل في انتخابات نقابة أطباء الأسنان، ومن ثم، تنتقل هذه البروڤة النموذجية إلى حقول أوسع، وصولا إلى مزيد من الإمعان الحاصل في معظم ركائز «الدولة العليةَ» وإلى أسسها وركائزها في كافة السلطات التشريعية والتنفيذية، والعمل جار بجدية وتخطيط وتصميم على خلخلة الوجود القضائي وسلامة تركيبته وانتماءاته إلى مؤسسات الدولة وليس إلى ركن محدد من أركان السلطة الممسكة بمقاليد الأمر الواقع، يضاف إليها، حلحلة ما تبقى من الكيان الأمني في هذا الوطن المنكوب الذي اختلّت تركيبته الأمنية وسلامة أوضاعه الحياتية في وجوهها وأسسها كافة، والمقصود هنا مؤسسة الجيش المستمرّة بحكم الوعي الوطني لدورها الذي لا بد من وجوده لحفظ سلامة الوطن واستمراريته، بعد أن ضاعت معظم أسسه واختطفت كل فعالية مأمولة لمؤسساته التشريعية والتنفيذية والإدارية. مع ملاحظة استطرادية لا بد منها نشير فيها إلى مناشدات بعض المواطنين المشاركين في التظاهرات الشعبية التي حصلت منذ يومين والتي طالبوا خلالها بتولي قائد الجيش للسلطة، (بعد أن يئسوا من استمرارية التسلط السلطوي الحاصل).
نعود إلى هذا الحدث الإنتخابي «الصغير الخطير»، هل يكون نموذجا لمصير أية تصرفات لا تحلو ولا تروق لمن بيدهم القدرة والوسائل التنفيذية الفعلية، وقد تكون نموذجا مصغّرا لما يمكن أن يُلْجأ إليه من تصرّفات لاحقة قد يكون من شأنها الإيغال في عملية الإمساك بمقاليد البلاد والعباد والمؤسسات، بدءا بالتصرفات البديهية في الحقل الإنتخابي الديمقراطي، ولا يعلم إلاّ الله ومن بيدهم حقّ الإمرة في الداخل وفي الخارج، إلى أي مدى يمكن «للتصرف الصغير» أن يضحى تصرفا كبير الحجم، بالغ الإمتداد والإشتداد والأثر.
وفي هذا المجال، لا بد لنا من الإشارة إلى حدث أكبر حجما وأوقع أثرا، وهو ذلك التصرف الذي محا كل أثر لحكومة تم تأليفها قبل بضعة أسابيع وذهب كثيرون إلى اعتبارها حكومة جهة سلطوية واحدة، وبعيدة منذ نشأتها الأولى عن توازن حقيقي في تركيبتها، رغم كل التطمينات والمهدئات التي حاولت أن توحي للناس بأنها حكومة حيادية وموضوعية في تقييمها للمواقف والمقررات، فإذا بها حكومة تحولت بسرعة مذهلة إلى حكومة تصريف أعمال، ممنوعة من الصرف والتصرف وهي محرومة وممنوعة من عقد جلسات لمجلس وزراء مكتمل في شكله وأساسه، وقادر على اتخاذ قرارات تستر عيوب ومواجع الأوضاع العامة التي تكاد أن تودي بالبلاد وبالعباد، دون أن تلبّي المطالب الأساسية التي تمكّن الدولة من التعامل مع المجتمع الدولي وصندوق النقد الدولي، وبصورة خاصة التعامل مع المجتمع العربي عموما ومع الدول الخليجية خصوصا، وفي طليعتها المملكة العربية السعودية، حيث وصلت هذه الأوضاع إلى حدود الإنقطاع الشامل والحائل دون تحقيق سلامة أوضاعها الإقتصادية والحياتية والمعيشية التي يعاني الوطن من مخالبها المؤذية، شتى أنواع المعاناة، دون أن يكون هناك أي ردة فعل مسؤولة وواضحة وفاعلة على جميع المستويات، تقي البلاد والعباد من هول المآسي التي جُرّ الوطن إليها بقدرات داخلية وخارجية. وفي هذا الإطار المطلوب من دولة رئيس الوزراء نجيب ميقاتي، وحرصا على سلامة أوضاعه الحاكمة والمؤثرة، وعلى نقاوة وسلامة ميثاقيتها، مزيد من التنبه والمراعاة لسلامة الحكم وصوابية التصرف، فتدوير الزوايا أمر مطلوب ومشكور، ولكن ما هو أكثر الحاحا في المطالب الأساسية: إنقاذ الوطن والتخلّص من ممارسات منعه من الصرف والتصرّف، وما لمسناه مؤخرا من مظاهرات المحتجين على سوء الأوضاع الحياتية والمعيشية، خاصة في مدينتي بيروت وطرابلس، هو من الأمور التي لا بد لأي مسؤول من أخذها بعين الإعتبار الشديد.