لم يعد ذا أهمية الترتيب العمودي أو الأفقي لأولويّتَي انتخاب رئيس للجمهورية وتأليف حكومة جديدة. كلاهما، كيفما صار إلى ترتيب أهميتيهما، متساويان في التعطيل وفي تبادل الشروط كما في تجاهل مواعيدهما الدستورية
على وفرة الاقتناعات المحبَطة بأن لا مراسيم لحكومة جديدة تخلف حكومة تصريف الأعمال في مرحلة ما بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، إلا أن الفرصة لم توصد تماماً بعد. بعد ستة أيام تمسي البلاد في الأيام العشرة الأخيرة من الولاية. ليس ثمة أهمية دستورية لها بعدما استخدم رئيس البرلمان نبيه برّي صلاحياته المنصوص عليها في المادة 73، بتوجيه الدعوة الى جلسة الانتخاب وتحديد موعدها الأول في 29 أيلول، ثم الثاني في 13 تشرين الأول. بذلك ستكون الأيام العشرة الأخيرة، غير الملزمة للاجتماع الحُكمي لمجلس النواب، أياماً عادية يُفترض أن تشهد بخيبة متوقعة سلفاً موعداً ثالثاً الخميس 20 تشرين الأول لانتخاب لن يحصل قبل ولوج شغور الرئاسة.
أما الأهمية السياسية المُعوَّل عليها، فتكمن في كون الأيام العشرة الأخيرة الفسحة الوحيدة للمجازفة بصدور مراسيم حكومة جديدة يقتضي إذذاك أن تضع حداً نهائياً للدلع والتدليع الدائر بين الأفرقاء المعنيين بتأليفها.
أما ما يقتضي أن يفضي إليه استمرار عضّ الأصابع المتبادل وتقاذف الشروط المستعصية، وتالياً تعذر تأليف حكومة جديدة في موازاة إصرار على عدم انتخاب رئيس للجمهورية، فهو أبسط الطرق القصيرة الى تفاقم المآزق الدستورية والانقسامات الداخلية والسجالات التي لا يُرتوى منها. ما خلا ذلك كله، أولى الطرق القصيرة هذه هي انتقال فعلي لصلاحيات رئيس الجمهورية الى حكومة تصريف الأعمال التي سيكون عليها عندئذ إدارة المرحلة الغامضة المقبلة، في ظل تعثر الاتفاق على انتخاب خلف لعون.
ليس ثمّة عقبة في الشق الدستوري في هذا الانتقال الحتمي والملزم، بيد أن تداعياته السياسية أدهى حتماً. فريق لبناني واحد فقط لن يعترف بانتقال صلاحيات رئيس الجمهورية الى حكومة تصريف الأعمال، وربما سيحاول مقدار ما يسعه ممارسة ضغوط على دورها المقبل من داخل مجلس النواب أو عبر الشارع، لتأكيد طعنه في شرعية تولّيها الصلاحيات تلك. إلا أن تولي حكومة مستقيلة صلاحيات الرئيس سيُقابل باعتراف علني بها من الأفرقاء المحليين جميعاً، والتعامل معها كأمر واقع. كذلك سيقارب المجتمعان العربي والغربي العلاقة بها على أنها كذلك. تمثل الشرعية الدستورية الموقتة والانتقالية للدولة اللبنانية الى حين انتخاب الرئيس، وتبعاً لذلك التفاوض معها. مآل ذلك، وإن بصفة منقوصة يشوبها عيب قانوني كونها مستقيلة تتولى تصريف الأعمال، إلا أن الشق الواقعي المعبَّر عنه بالشرعية سيتكفل بتحميلها ما ينتظرها وتوفير الغطاء السياسي لها.
طرفان فقط لا يريدان حتى انتهاء ولاية الرئيس الحالي حكومة بمراسيم جديدة، لأسباب مختلفة مغايرة، إلا أنها تتقاطع في الهدف المتوخى: رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل مستفيداً من فائض القوة المعطى له في التحوّل مفاوضاً غير مباشر كون رئيس الجمهورية، عمّه، هو مَن سيوقّع في نهاية المطاف مراسيم الحكومة الجديدة. وهو آخر عمل دستوري يُقدم عليه الرئيس. مقاربة ميقاتي للمأزق أسهل ومرجحة لمصلحته كيفما انتهى الأمر: سيكون رئيساً للحكومة، مستقيلة أو مُعوَّمة بمراسيم جديدة، وسيصبح هو الناطق باسم الشرعية الدستورية الانتقالية في الداخل والخارج. ذلك ما فعله سلفاه الرئيسان فؤاد السنيورة وتمام سلام عامَي 2007 و2014. التوقيع الملزم لعون كي تبصر الحكومة الجديدة النور يقترن بتوقيع آخر مكمل وملزم لرئيسها يجعل المرجعين الدستوريين متكافئين في استخدام كل منهما سلاحاً ذا حدين. بيد أن تلازماً كهذا، على أبواب نهاية ولاية رئيس الجمهورية، يصبح قليل الفاعلية بإزاء واقع جديد سينبثق بعد أيام قليلة، وهو أن ثمة رئيساً للدولة سيغادر منصبه ورئيساً للحكومة سيحلّ باسم حكومته ومعها في صلاحياته.
في الأيام الأخيرة، رغم مسحة التشاؤم المصاحبة لانقطاع الاتصالات والجهود الجدية حيال إيجاد مخرج للمأزق الحكومي، صار الى تناقل معلومات تتحدث عن «مخاوف» مرتبطة بـ«ريبة» في أوساط حزب الله. تقول المعلومات إن الحزب لم يفقد الفرصة الأخيرة التي تمكنه من فرض تعويم الحكومة المستقيلة بمراسيم جديدة، توازن بين ما يطلبه كل من رئيسَي الجمهورية والحكومة وتخفض على الأقل سقوف شروطهما. ليس متوقعاً تخلّي الحزب عن رئيس الجمهورية في الأيام الأخيرة من الولاية، وتسجيل خسارته بفرض أمر واقع عليه هو بقاء الحكومة المستقيلة بشروط رئيسها مستفيداً من عامل الوقت. ومع أن الرئيس سيخرج من منصبه، إلا أن باسيل على رأس كتلته سيبقى في صلب المعادلة السياسية التي يمثّل حزب الله عمودها الفقري. وهو تالياً سيكون معنياً بحماية مكاسب حليفه التيار الوطني الحر وحمايتها، ويتمكن عندئذ – أو يتحرر في أحسن الأحوال – من الاشتباك الذي رافق ولاية السنوات الست المنصرمة بين حليفين لا يُستغنى عنهما من دون أن يكونا في المنزلة نفسها هما: رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان.
سببان اثنان على الأقل يقيمان في هواجس الحزب حملت، ولا تزال، أمينه العام السيد حسن نصر الله في كل مرة يخاطب فيها جمهوره على الإصرار على تأليف حكومة جديدة: أولهما قلقه مما يُحسَب من «شطحات» ميقاتي في علاقاته الخارجية، وثانيهما الطريقة التي يدير بها تصريف الأعمال في الوقت الحاضر منذ اعتبار الحكومة مستقيلة في أيار الفائت. يخشى الحزب من أن يجعل ميقاتي منها قاعدة أداء حكومته بصفتها تصرّف الأعمال في خلال تولّيها صلاحيات رئيس الجمهورية. فحوى الأداء الذي لم يسبقه إليه سلفاه في تجربة مماثلة، أنه يدير السلطة الإجرائية بالمفرّق. يكتفي بعقد اجتماعات مع وزرائه، كل على حدة، دونما حاجته الى اجتماع مجلس الوزراء. وبذلك، على نحو غير مباشر، مع وزراء تكنوقراط يُشتكى من معظمهم، يحصر المرجعية الدستورية به وحده في معزل عن مجلس الوزراء المنوط به في المادة 62 انتقال الصلاحيات إليه وكالة.