ليس من بين كلّ المعنيّين بالملف الحكومي، من يجرؤ على الإعراب ولو على حدّ أدنى من التفاؤل في إمكان تأليف حكومة في المدى المنظور. وتبعاً لذلك، يبقى منسوب التشاؤم هو «الطابش» حتى الآن في ميزان التأليف، إلّا إذا حمل اللقاء الرّابع بين الرئيسين ميشال عون ونجيب ميقاتي ما يميل بكفّة هذا الميزان في الإتّجاه الآخر. جرة التأليف كُسرت مرّتين مع السفير مصطفى أديب والرئيس سعد الحريري، فهل ستسلم الجرّة هذه المرّة، ويكسر نجيب ميقاتي كلّ الحواجز التي اعترضت تشكيل الحكومة؟
إذا ما أردنا أن نصرف الدّفق من الكلام والتمنيّات والاستعدادات للتعاون والتسهيل، التي «سُيِّلت» على الحلبة الحكومية منذ تكليف ميقاتي وحتى اليوم، فإنّ هذا الدّفق على غزارته كافٍ لتشكيل ست حكومات وليس حكومة واحدة. لكنّ، ولأنّ التجربة السابقة مع هذا الدّفق الغزير وما جرّه من مماحكات وهجومات سياسيّة وشخصيّة منحت النّاس حقّ التشكيك في النوايا، ولا تصدّق كلّ ما يُقال، قبل أن ترى بأمّ العين انّ الحكومة قد تشكّلت.
لا يقتصر هذا التشكيك على الداخل اللبناني فقط، بل يتشارك الخارج فيه وبوتيرة أعلى من اللاثقة، بجديّة من صنّفهم «معطّلين»، في سلوك مسار مختلف عن المسار التعطيلي الذي انتهجوه خلال أشهر الفراغ الحكومي السابقة. هذه اللاثقة صرّح بها ديبلوماسيّون غربيّون، وبلغت مسمع سياسيّين وغير سياسيّين، مقرونة بالخشية من تكرار التعطيل السابق، وهذا يفسّر لغة الشدّة التي يقارب فيها المجتمع الدولي ملف تأليف الحكومة، وتحذيره للمعنيّين مباشرة بهذا الملف من العودة إلى الدوران في حلقة المراوحة السلبيّة، ونصيحته المتجّددة باستغلال الفرصة الأخيرة المتاحة لتأليف حكومة بعد سنة من التعطيل. والتي قرنها بالتلويح بسيف العقوبات على معطلي الحلّ في لبنان. وهذا دليل كافٍ على أنّ المجتمع الدولي لم يلمس أي تبدّل في منحى التعطيل حتى الآن.
في الصورة «غباش» كثيف، نجيب ميقاتي يتعمّد أن يبدو متفائلاً، وضع تصوّره لحكومة ترضي كلّ الأطراف، لكنّه بالتأكيد لا يغفل من حسبانه أنّه أمام حقل الألغام ذاته الذي طيّر تكليفين، هو في الأساس آتٍ لتشكيل حكومة وليس إلى تضييع وقت وتعب قلب و»رايح جايي ع بعبدا»، ومن هنا يبدو أنّه جهّز نفسه لكلّ الإحتمالات، ولذلك لن يكون متفاجئاً أبداً إنْ عاد فريق رئيس الجمهوريّة إلى التمسّك بمطالب وشروط وطروحات غير واقعيّة، ويفترض أنّ لديه لكلّ مطلب أو شرط أو طرح جواباً.
ولكن، هل يحتمل وضع البلد أن يغرق التأليف من جديد في لعبة المطالب والشروط والطروحات المتقابلة؟ والرهان على من يُرضِخ الآخر أوّلاً، على ما جرى في مرحلة تكليف الرئيس الحريري؟
قد تبدو الصورة كذلك إلى ان يثبت العكس، وملامحها النهائيّة يفترض أن تتبلور مع اللقاء الرّابع بين عون وميقاتي، فربّما تجري رياحه بما تشتهي سفن المستعجلين على تأليف الحكومة، وربّما عكس ذلك.
المحسوم حتى الآن، هو ما كان محسوماً خلال فترة تكليف الحريري، حكومة من 24 وزيراً، اختصاصيين من غير الحزبيّين. وثلاثة أرباع الحقائب محسومة، ما خلا الداخلية والعدل والطاقة، فعون يريدها لفريقه، وأما ميقاتي فله رأي آخر معاكس. واما الأساس فيبقى الثلث المعطّل، فلم يخرجه الفريق الرئاسي من أجندته، فيما هو مرفوض من قِبل سائر المعنيّين بالمشاركة في الحكومة، والرئيس المكلّف عبّر عن هذا الرفض بقوله انّ رئيس الجمهورية هو رئيس كل السلطات فكيف يمكن أن يحصر نفسه بثلث معطّل.
ويبقى موضوع الثقة بالحكومة، فالرئيس المكلّف قال انّ جبران باسيل ابلغه أنّه لن يسمّيه ولن يشارك في الحكومة ولن يمنحها الثقة. وهذا الكلام، وكما يحرّر الرئيس المكلّف من أي التزام مع باسيل وتياره طالما أنّه قرّر أن يتموضع في خط المعارضة، فإنّه من جهة ثانية، لا يعطي باسيل وتياره حقّ وضع أيّ شرط مرتبط بتشكيل الحكومة، سواء ما يتعلق بما يسمّونها الحقوق أو المعايير. شأنه في ذلك شأن كلّ من لم يسمّ ميقاتي في الاستشارات الملزمة وقرّر عدم المشاركة في حكومته، بمعنى أوضح، لا يستطيع أن يلعب دورين، بحيث يخرج من الباب ثم يريد أن يدخل من الشّباك.
ثمّ إنّ أسئلة كثيرة لم تجد أجوبة مقنعة بعد، حول قرار باسيل عدم منح الثقة لحكومة هو شريك فيها:
– هل يستطيع باسيل وتياره وتكتله الفصل بينهم وبين رئيس الجمهورية؟
– رئيس الجمهورية، هو بشكل أو بآخر، هو الرئيس الفعلي لـ»التيار الوطني الحر»، وباسيل و»التيار الوطني الحر» و»تكتل لبنان القوي» قالوا كلّهم إنّهم خلف رئيس الجمهوريّة، ورئيس الجمهوريّة سيشارك في الحكومة عبر وزراء يسمّيهم، وهم يثقون بما يقرّره الرئيس. والثقة لا تتجزّأ، إما ثقة شاملة كلّ الحكومة وإمّا لا ثقة شاملة كلّ الحكومة، وفي حالة التأليف الراهنة، الإمتناع عن التصويت يعادل عدم منح الثقة، فكيف يستقيم عدم منح الثقة للحكومة رئيس الجمهورية مشارك فيها بوزراء يسمّيهم هو ويثق بهم؟
– ألا يعني ذلك عدم ثقة بوزراء رئيس الجمهوريّة أيضاً؟
– وبمعنى أدقّ، ألا يعني ذلك أنّ اللاثقة هي في وجه رئيس الجمهوريّة أيضاً، وعدم ثقة بما قرّره؟
– هل يمكن لرئيس الجمهوريّة أن يقبل أن يحجب تياره السياسي الثقة عن حكومة هو شريك فيها بثلث وزرائها؟
لنفرض أنّ رئيس الجمهورية قبل أن يحجب تياره السياسي الثقة عن حكومة هو شريك في تأليفها وفيها، فهل يملك أن يقدّم مبرّراً لذلك، لوزرائه أوّلاً «غير الموثوق بهم»، ثم إلى كلّ الآخرين، إلّا اذا كان خلف الأكمة ما خلفها، وأنّ ثمّة من يعلم مسبقاً أنّ الحكومة لن تتشكّل!
وتبعاً لذلك، ثمة من يربط الملف الحكومي بثلاثة احتمالات:
– الأول، احتمال متشائم يستبعد فرضيّة التأليف نهائياً، لسبب مرتبط بعدم وجود معجزة تهدم أو تخفّض سقوف مطالب الاطراف. فالرئيس المكلّف له رؤيته، وقال إنّه يقارب بإيجابية وانفتاح كل الملاحظات. لكن الجوّ المحيط برئيس الجمهوريّة يسعى إلى ان يرضخ ميقاتي لشروط الرئيس، ويستمر في استفزازه، تارة بالقول انّ عليه ألّا يصفّي نفسه ويصبح ضحيّة جديدة على حلبة التكليف، وتارة أخرى بتهديده، كما فعل أحد مستشاري رئيس الجمهورية، بالقول عبر الشاشة البرتقالية: «اذا بدو يضل ع شروطو بيطير متل ما طار الحريري».
– الثاني، احتمال أقلّ تشاؤماً، بأن تتشكّل الحكومة في وقت قريب، رضوخاً للضغط الداخلي والخارجي، وكنتيجة لحركة اللقاءات المتتالية بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف، والأمر حتى الآن ما زال في بداياته وقد يتطلب بعض الوقت، إنّما ليس بالوقت الطويل لإنضاج الطبخة الحكومية.
– الثالث- أكثر تشاؤماً، يوضحه أحد كبار السياسيين بقوله: «والله، لو أمطرت الدنيا دولارات وبنزين ومازوت، فلا حل في لبنان في المدى المنظور، وحتى ولو حصلت معجزة وتشكّلت الحكومة، فإنّ هذه الحكومة لن تتمكّن من أن تفعل شيئاً، فكل الأبواب مقفلة امامها سواء في الداخل أو الخارج.. ولا يغيب عن بال أحد أنّ كلّ ما تعرّض ويتعرّض له لبنان من ضغوط هدفها الاساس خنق «حزب الله»، وبالتالي، فإنّ الحل في لبنان له ثمن. فكيف يمكن أن يُسمح بهذا الحلّ هكذا بكل بساطة، طالما أنّ من يُراد منه أن يدفع الثمن، لم يدفعه حتى الآن!