على وَقع مسلسل عذابات اللبنانيين المتمادية ولدت الحكومة مشفوعة بتوافق اللحظة الاخيرة الذي ما كان ليحصل لولا الضغوط الداخلية والخارجية التي مورست على المعنيين، الذين أبوا حتى اللحظة الاخيرة إلّا ان يكون لكل منهم «الحصة» التي ترضيه ولو انهم نَفوا ذلك، علماً ان التجارب في عالم الصحافة تفيد ان «من ينفي الشيء عنه يؤكده»، وانّ لكل نار تستعر دخاناً لا يُخفى عن العيون.
لقد كان حدثا مفصليا يكاد لا يصدّق أنه صار للبنان حكومة جديدة، إذ بعد كل ما حصل مع الرئيس سعد الحريري وقبله مع مصطفى اديب أطلّ الرئيس نجيب ميقاتي بحكومته الثالثة ليقول ما معناه أنه لا يزال هناك مجال لتشكيل حكومات طبيعية في لبنان. وإن للشارع رأيا مخالفا يعتبر ان هذه الحكومة جاءت نتاج محاصصات ولكنه قد يمنحها فرصة لعلها تستطيع التخفيف من معاناتهم الحياتية او تلحم الانهيار.
لكن سياسيين تتبعوا مجريات الاستحقاق الحكومي منذ 13 شهرا الى الآن وخرجوا بالآتي:
ـ أولا، انّ ما كان اللبنانيون ظنوا انه على مستوى تأليف الحكومات من محاصصات ومواصفات قد أصبح من الماضي، عاد مجدداً مع حكومة ميقاتي بعد كل الاسماء التي احترقت أو أُحرقت، من الحريري، الى ميقاتي شخصياً في مرحلة ما، الى السفير مصطفى اديب وقبله الدكتور بهيج طبارة ومحمد الصفدي وسمير الخطيب وغيره، ما جعل عودة ميقاتي الى تشكيل حكومة «كاملة المعاني والاوصاف» في نظر المعنيين، يكاد يكون معجزة، على رغم من نقمة الشارع على الطبقة السياسية التي انتجت هذه الحكومة، والتي يحملها مسؤولية الانهيار والخراب الذي حل بالبلاد على كل المستويات ويريد لها أن تخرج من السلطة.
ـ ثانياً، ان الرئيس ميشال عون رغم كل الحصار المفروض عليه ورغم الظروف المحيطة فيه وعمره ووضعه الصحي أثبت من خلال تركيبة هذه الحكومة انه لا يزال يملك حيوية فن ادارة معاركه، وبالتالي هو في هذه المعركة التي أخرج فيها الحريري من المشهد بعدما انقلب عليه، نجح في ارجاع خصم الحريري في نظر مؤيديه الى سدة رئاسة الحكومة.
ـ ثالثاً، فشل الذين عملوا على قطع الاوكسيجين عن عون عبر تعطيل تشكيل الحكومة، وجاء التشكيل ليمكّنه من استعادة الاوكسيجين السياسي والقوة.
ولوحظ انه بعد صدور مراسيم الحكومة سارع الى التأكيد «أنّنا سنخرج من جهنّم، وسنصعد من الهوّة الموجودين فيها». مشددا على «أنّني لم آخذ الثّلث المعطّل، وكان الأمر حرباً سياسيّة عليّ، وما كان يجب أن نأخذه أخذناه، والمهم أن نتوافق في العمل».
لكن السؤال الكبير الذي يطرح نفسه، بل ويطرحه ايضا فريق من السياسيين، هو: لأي سبب ولأي ثمن وما هو الـ deal الذي عقده عون مع ميقاتي او مع من هو أبعد من ميقاتي سواء كان الفرنسي او الاميركي حتى تمت ولادة الحكومة؟
كذلك يسأل هؤلاء السياسيون: هل ان الاتصال الاخير بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الايراني السيد ابراهيم رئيسي وصفقة الـ 27 مليار الفرنسية مع العراق؟ وهل أن بواخر المحروقات القادمة من ايران الى لبنان وما رافقها من تحد مع الاميركيين، وغيرها هي من العوامل الحقيقية التي ولّدت حكومة ميقاتي من رحمها؟
ويسأل السياسيون إيّاهم ايضاً: ما هي حقيقة ما تستطيع هذه الحكومة انجازه خصوصاً انّ عمرها سيمتد حتى موسم الانتخابات النيابية في ربيع 2022 ؟ وهل هي فريق عمل متجانس كما تمناها ميقاتي ان تكون؟ أم أنها ليست اكثر من مجموعات متنافرة تمثل القوى السياسية ولم يجمعها سوى لعبة المحاصصة؟
يقول البعض ان الفارق النوعي الوحيد في هذه الحكومة عن سابقتها، اي حكومة الرئيس حسان دياب، هي ان نجيب ميقاتي على رأسها، وبالتالي سيكون عليه ان يأخذ من رصيده وعلاماته ليرفع من رصيدها وعلاماتها، وهذا الامر لن يكون مسألة سهلة.
وفيما يسأل البعض ايضا: هل أن هذه الحكومة هي انعطافة في مسار الانحدار اللبناني، أم انها ليست اكثر من خطوة اضافية في اطار الانهيار الذي يفترض ان ينتج نظاماً سياسياً جديداً؟ هناك من يقول ان عون ما كان ليضع «توقيعه الذهبي» على مرسوم تأليف هذه الحكومة لو لم يأخذ ما يريده من ضمانات، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل ان هذا الضمان هو الثلث المعطل ام انه اموراً حاكها الرئيس مع الفرنسيين لم يأتِ وقت إبرازها بعد؟
في اي حال فإن هذه الحكومة ستكون على محك العمل، وقد خرج رئيس مجلس النواب من لقاء التأليف في القصر الجمهوري ليقول: «من الآن فصاعداً، حيَّ على خير العمل». فالعمل، وتحديدا عمل السلطة وغالبية القوى السياسية لم يكن خيراً منذ ما قبل انتفاضة 17 تشرين ولا يزال، بل كان وبالاً على اللبنانيين في كل مجالات حياتهم. فهل ستصلح هذه الحكومة ما أفسد دهر الطبقة السياسية الفاسدة في حياة اللبنانيين المستمر فصولاً؟