في اللحظة التي تنال فيها الحكومة ثقة المجلس النيابي، يدخل لبنان في «الحقبة الميقاتيّة»، ولمدى محدّد نظريّاً بثمانية أشهر.
الملاحظة الاساسيّة التي تُسجّل على هذه الحقبة، انّها تخطف وهج السنة السادسة من ولاية رئيس الجمهورية، التي أريد لها أن تشكّل فرصة أخيرة للرئيس ميشال عون وفريقه السياسي، للتعويض عن السنوات الخمس الماضي، التي أثقلت العهد وفريقه السياسي بإخفاقات في مجموعة كبيرة من العناوين التي قاربها، وبصدامات مفتوحة مع كلّ المكونات السياسية.
يعني ذلك، أنّ السنة الرئاسيّة الأخيرة، ستستحيل مع انطلاق الحكومة بمواصفاتها الكاملة وصلاحياتها في إدارة الدولة واتخاذ القرارات، ستتموضع في نقطة الرّصد للعمل الحكومي، دون القدرة على تطويعه في الشّكل الذي كان عليه في مرحلة تصريف. أو على نسب أيّ انجاز او خطوة موفّقة تُقدم عليها، للعهد الذي نعى السنوات الخمس الماضية من الولاية تحت عنوان «ما خلّونا نشتغل». وتاه على مدى تلك الفترة في دوامة المناكفات على مجموعة كبيرة من العناوين والملفات الحيوية، دون ان يصل أي منها الى شيء من الحلحلة ولو الخجولة، يُضاف الى ذلك، توسّح الحِفر بينه وبين سائر القوى السياسية.
لا يحتلف إثنان على أنّ «الحقبة الميقاتيّة» بالملفات المطروحة فيها على بساط المعالجة السريعة والملحّة، تلقي على عاتق الرئيس نجيب ميقاتي حملاً ثقيلاً وجسيماً، خصوصاً انّه ألزم نفسه بخوض التحدّي، ويقارع مهمّة صعبة جداً مقبل عليها، برغم عدم امتلاكه عصا سحرية. وتبعاً لذلك، حدّد لنفسه هدفاً وحيداً، وهو تجاوز هذه المهمّة بقدر عالٍ من النجاحات الملموسة والسريعة، التي تخاطب ما يتطلع اليه اللبنانيون، فالفشل في تحقيق ذلك، ستكون كلفته باهظة جداً.
وتبعاً لذلك، فإنّ الأولويّة الميقاتية هي تجنّب دفع الثمن بأي شكل من الأشكال، وحتى ولو تطلّب الامر اعتماد لغة غير مألوفة وجديدة، تستغني عن محاولات تدوير زوايا التعقيدات بَنفَس هادئ، لتحلّ محلها لغة تكسير الزوايا الحادّة في مواجهة التعقيدات التي قد تُفتعل في طريقها، بقصد تفشيل الحكومة.
ومن هنا، فإنّ الحقبة الميقاتية الجديدة ترتكز على اساسين:
الاول، ظاهري، عنوانه مقاربة مجموعة كبيرة من الملفات المتشابكة يتطلب تفكيكها عصا سحرية. وثمة حماسة واضحة لدى ميقاتي في إنجاز المقدور عليه في مدى زمني سريع، وهو قد باشر العمل في هذا الإتجاه، من خلال جولة الاتصالات التي اجراها مع بعض المراجع والمؤسسات والمستويات العربية والدولية، والتي بعثت لدى ميقاتي شيئاً من التفاؤل في إمكان تحقيق خطوات نوعية في المدى المنظور.
الثاني، وهو الأساس والجوهر، ويتجلّى في الرهان الأكثر من جدّي، على ان تكون الحقبة الميقاتية الجديدة، الفرصة الأثمن في التاريخ الميقاتي، للتأسيس لحقبات مماثلة في مرحلة ما بعد الإنتخابات النيابيّة المقبلة والإنتخابات الرئاسية التي ستليها بعد أشهر قليلة.
على انّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل أنّ حساب الحقل الميقاتي، سيكون مطابقاً لحساب البيدر السياسي؟
ليس من السهل تظهير إجابة دقيقة عن هذا السؤال، في ظلّ الرمال اللبنانية المتحركة. فالغيوم المستبدة بالأجواء الداخلية، تجعل مستقبل العمل الحكومي عصيّاً على توقّع أي مآل سينحى اليه، في ظل تشابك الملفات الاقتصادية والمالية والإجتماعية، وهي كلّها صعبة، الّا انّها آيلة لأن توجد لها حلول ولو بصورة متأنّية ومتدرّجة. وكذلك في ظلّ تصادم الإرادات السياسية والنزعة الرهيبة الى الاشتباك والقتال السياسي، سواء بين من يُعتبرون رعاة الحكومة الميقاتية، او بين هؤلاء وسائر المكونات السياسية المعارضة، والتي كان من نتيجتها الحال البائس الذي بلغه لبنان في سنوات العهد الخمس.
حديث الصالونات السياسيّة يرجّح الفرضيّة القائلة، بأنّ الحقبة الميقاتية الجديدة مزروعة بالأشواك، وثمّة من قرن تلك الفرضية بتشكيك بقدرة الحكومة على إحداث نقلة نوعية في الواقع اللبناني القابع على حافة الكارثة، بالنظر إلى تركيبتها العادية ونوعية بعض الوزراء التي لا تنسجم مع حجم المهمّات المقبلين عليها. لكن هذا التشكيك يضع بعض الأمل على قدرة نجيب ميقاتي وحنكته في قيادة الحكومة في الإتجاه الذي رسمه.
على أنّ الأشواك التي تكون موجعة ومعطّلة في آن معاً، يُخشى أن تعيد إنباتها، تلك العقلية التي تعتاش على الاشتباكات مع الجميع، بإصرارها على فرض مشيئتها في ملفّات حيويّة، عبر محاصصة موصوفة في بعض التعيينات الحيوية، خارج منطق الكفاءة والجدارة والحيادية المطلوبة في هذه المرحلة، والتي ينادي بها المجتمع الدولي، ويعتبرها أساساً للإصلاح المطلوب الذي يراعي تطلّعات اللبنانيين ويُفرج عن المساعدات للبنان. وكذلك عبر إصرارها على حبس ملفات أكثر من ملحّة، ليس أقلّها التشكيلات القضائية المحبوسة في القصر الجمهوري، ودورات لموظفين من درجات وظيفية متدنية محبوسة بدورها منذ سنوات بذريعة إخلالها بالتوازن الطائفي.
من السذاجة الاعتقاد انّ لبنان مقبل على مرحلة وردية، فمثل هذا الكلام يصلح ليُكتب في الروايات الخرافية. فانطلاق قطار العمل الحكومي لا يعني أن بلغ هدفه الإنقاذي السريع، بل انّ الواقع اللبناني يوجب التحلّي بالواقعية حيال مقاربة الكمّ الهائل من الملفات المعقّدة والقابعة على سكة هذا القطار، وكلها، من دون استثناء أي منها، لا تنطوي فقط على أبعاد اقتصادية او مالية او اقتصادية، بل على أبعاد سياسية وطائفية ومذهبية وحتى مناطقية، وكل منها يشكّل اختباراً خطيراً للحكومة، إذ انّ الحكومة قد تستطيع ان تدخل الى أي ملف، الّا انّها قد لا تستطيع ان تخرج منه بسهولة، او بإيجابيات، هذا إذا قُدّر لها أن تتمكّن من الخروج.
ثمة من يقول انّ من الضروري منح الحكومة مهلة ثلاثة أشهر على الأقل، لكي تثبت أقدامها، وتبدأ خطواتها العملية في المهمّة الصعبة التي تنتظرها. ولكن وكما هو واضح، فإنّ اصحاب هذه النظرية لم ينتبهوا الى عامل الوقت الذي يبدو أنّه أقوى من الحكومة، قد تصارعه، انما لا تستطيع ان تسبقه. والرئيس ميقاتي نفسه قال إنّ ثمانية اشهر، وهو العمر الافتراضي للحكومة الذي ينتهي عملياً من بعد إجراء الانتخابات النيابية المقبلة في ايار المقبل، وربما يكون أقصر من ذلك إن جرى تعديل هذا الموعد وقُدّم موعد الانتخابات إلى آذار، أي بعد 6 اشهر، وذريعة التقريب مرتبطة بمصادفة ايار مع شهر رمضان (وهو امر ممكن وطبيعي، ويبقى ضمن مهلة الستين يوماً الواجب إجراء الانتخابات النيابية خلالها).
وتبعاً لذلك، فإنّ كل المؤسسات المالية الدولية، وكذلك كل الخبراء الاقتصاديين المحليين والخارجيين، التقوا جميعاً على أنّ وضع الأزمة اللبنانية على سكة الحلول، يتطلب سنوات، وذهب البعض منهم الى الحديث عن 7 سنوات، وآخرون عن فترة تزيد على الـ10 سنوات. هنا يُطرح سؤال من شقين:
الأول: لنفرض الاشهر القليلة المحدّدة كعمر للحكومة خالية من أي استحقاق، ولنفرض انّ الحماسة في ذروتها لدى كل مكونات الحكومة، فماذا يمكن لها أن تنجز خلال ثلاثة او ستة او ثمانية أشهر؟
الثاني، كيف للحكومة ان تنتج أصلاً، إذا كان عمرها محكوماً باستحقاق الانتخابات النيابية الذي صار على الأبواب، والذي يحكم بدوره كلّ المكونات السياسية بالتفرّغ للاستعداد لهذا الاستحقاق، أقلّه قبل 4 أشهر، اي اعتباراً من مطلع السنة الجديدة؟
ولعلّ من الضروري الالتفات إلى أنّ الملف الانتخابي قد يسرق الكثير من وقت العمل الحكومي، في ظلّ الأجواء المحيطة بهذا الملف، الذي يُفترض ان تدخل تعديلات ضرورية على القانون الانتخابي النافذ حالياً، وخصوصاً في ما خصّ انتخاب المغتربين والبطاقة الممغنطة، مع تعذّر القيام بهما، فضلاً عن أنّ الأجواء السياسية المحيطة بهذا الملف توحي باشتباك سياسي عنيف، وخصوصاً في مجلس النواب، بين فريق مطالب بالإبقاء على القانون الحالي بوصفه الافضل، وأدّى إلى افضل تمثيل، وفريق مطالب بالإطاحة بهذا القانون وصوته التفضيلي ونسبيته المشوّهة، بوصفه أحدث خللاً رهيباً وعزّز الطائفية والمذهبية…
في الخلاصة، وأمام هذا الاشتباك المنتظر، لا يبدو انّ العمل الحكومي سيكون ميسّراً.