قد تكون المرة الأولى التي توحّدت فيها الرؤى حول الوضع في لبنان وهو ما لم تحظ به اي أزمة شغلت بأصدائها العالم. فخريطة الطريق التي رسمتها المبادرة الفرنسية اختصرت المخارج المقترحة وترجمتها بمختلف مراحلها واولوياتها. وليس صعباً على من يتابع المواقف الدولية التثبّت من ذلك. فهي شكلت باقتناع المدخل الاجباري الى التعافي والإنقاذ. فهل انّ جميع اللبنانيين مقتنعون بذلك، ام ان بعضهم لا يريد ذلك؟
ليس في هذه المعادلة ما يشكّل اي مفاجأة، فمن يراقب مسلسل المواقف والبيانات التي صدرت منذ تأزّم الوضع في لبنان يكتشف بسهولة اللغة العالمية الموحدة تجاهه الى ان تحولت شعارات «زَهق» العالم من تكرارها بما فيها من ملاحظات ونصائح متجانسة ومتكاملة. والمحطات كثيرة يمكن سردها لمجرد التوقف عند مسلسل الاحداث المهمة منذ تفاقمت الازمات التي أنهكت اللبنانيين وكانت سببا مباشرا قادَ الى انتفاضة 17 تشرين 2019، بما عبّرت عنه من عفوية مهما قيل فيها وأُلصِق بها من اتهامات باطلة. فما تلاها ترجَم مخاوفهم فتناسلت وتولدت من قطاع الى آخر في غضون اشهر قليلة.
ففي مجلس خاص روى ديبلوماسي عتيق معروف بما له من اتصالات دولية ومن علاقات مع مواقع القرار واصحاب رأس المال، ما يسمّيه السياق المنطقي الذي سلكته الازمة بمختلف محطاتها الاساسية. فهو، وبالإضافة الى إشاراته السريعة الى ما سبق الانتفاضة الشعبية، توقّفَ امام التحذيرات التي أطلقتها مؤسسات التصنيف الدولية ومعها تقارير البنك الدولي التي احتفظ بها بعض أصحاب النفوذ في الأدراج المقفلة غير آبهين بالتنبيهات لما هو متوقع وآت.
وقال الديبلوماسي: قد يكون من الأفضل التركيز في هذه الجسلة على ما تلى الانتفاضة، ليس لسبب أهم، مما تركته من قلق لدى أهل السلطة ومستقبل اركانها. فقد بدأت مظاهر الخوف من المستقبل وعليه تترجم تدريجا عند البحث عن الرساميل لقاء فوائد لم يلحظها مستثمر في الجنات الضريبية. وبدأت عمليات تهريب الرساميل من المصارف بعدما سمحت الظروف بها لمصلحة عدد من النافذين ومالكي الاسهم فيها عند اقفال ابوابها أمام زبائنها.
فلا دخان بلا نار، أضاف الديبلوماسي، لافتا الى انه وعلى رغم غموض الأرقام المتداولة، وبمعزل عن هزالتها او ضخامتها، فهي ليست سيناريوهات وهمية وان كانت الحاجة ماسة الى التدقيق فيها، ومهما طاولها من تشكيك، لا تخفي حقيقة ان هناك من تَمكّن بهَيبته وسلطته وبأشكال مختلفة من الترغيب او الترهيب من نقل امواله الى ملاذات آمنة، سواء الى البيوت او في الخارج. وهو ما ادى تلقائيا الى ما عاشته الاسواق المصرفية والمالية من ازمة حادة عكست تدهور سعر صرف الليرة عند بروز الطلب الكبير وانتفاء العرض الكافي.
عند هذه التحولات يتوقف المتحدث، ليُضيف: لم يكن في الحسبان ان تنتشر جائحة كورونا وما تركته من آثار خطيرة على الوضع في لبنان، وكذلك لم يكن ينقص أبناءه أخطر وأدهى مما حصل مساء 4 آب عندما تم تفجير مرفأ بيروت فحلت النكبة بأبنائها، وزرعت الموت والدمار الشامل على مساحة كبيرة من محيطها وأحياء العاصمة وضواحيها، فاستيقظ العالم فجر 5 آب على ما لم تشهده البشرية من قبل سوى في حادثتين، قبل ان تكون بيروت الثالثة.
وبغضب بارز وبلغة ساخرة – أضاف الديبلوماسي – ليس في ما سبق مجرد تأريخ لمرحلة عايَنَها الجيل الجديد في لبنان، بل للإشارة الى أنها لم تحرّك مسؤولاً، وباستثناء الاستقالات النيابية التي سبقت استقالة حكومة اختارت لها اسم «مواجهة التحديات» بيومين لأمْكَنَ القول انّ لبنان لم يشهد اي حدث يعبّر عن رد فعلٍ يساوي حجم الجريمة. فبقي المسؤولون في مواقعهم يسابقون المنكوبين في إدانة ما حصل. وعلى وقع الوعد بتحقيق ينجز في ايام خمسة تلاحقت الإجراءات القضائية التي وضعت بعضا من المسؤولين رهن التحقيق.
والأخطر ان بين المسؤولين من اعتبر ان النجدة الدولية التي سبقت ورافقت زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لبيروت لمساندة شعب منكوب تشكل فرصة لإنقاذ صورتهم التي هشّمتها الانتفاضة وجَرّدتها النقمة الشعبية من اي صفة. وهو ما شكّل سبباً لسقوط كل المبادرات التي أطلقت، وابرزها المبادرة الفرنسية التي عاد من اجلها ماكرون الى بيروت مرة جديدة في 2 ايلول، مُعتقدا انه تمكن من جمع القادة اللبنانيين في خطوة لم يسبقه اليها احد.
عند هذه المحطة رغب الديبلوماسي بتعداد الخطوات التي تَلَت تلك المرحلة والشروط التي وافق اللبنانيون عليها سلفا، ليتحدث بالتفصيل الممل عن كل ما قاموا به للخروج من مسار تعهداتهم وتفكيك المبادرة بندا بندا، الى ان تبخرت وتبعثرت رغم تحولها بنحو متدرج آلية دولية جمعت من حولها معظم القوى العربية والدولية. ولذلك لم يتغير شيء، وباستثناء تشكيل الحكومة التي جاءت متأخرة لعام كامل قبل دخول البلاد مدار الانتخابات النيابية لتعطيل اي دور لها سوى التسويق لأهل المنظومة ولتجدد الأكثرية نفسها بنفسها. وسيثبت المسؤولون قدرتهم على تعطيل ما تعهدوا به، ولن يقدموا مؤشرا واحدا على النية بتحقيق اي من الإصلاحات حتى تلك التي تشكل قاعدة لاستعادة الحد الادنى من الثقتين الداخلية والخارجية التي فقدت بالعهد ومنظومته. وفي القضاء العدلي انتفاء الدلائل الى النية بتعطيل اي خطوة لمحاسبة من ارتكب او خالف وأجرَم.
وعليه، مهما قيل من ان لبنان لن يرى يد المساعدة الحقيقية ممدودة اليه قبل القيام بالإصلاحات المطلوبة في قطاع الطاقة وفي القطاع المصرفي والمالي وفي الإدارة، وما لم يصل التحقيق في جريمة المرفأ ابعد من اعادة تعداد عدد الضحايا الذي لم يقفل بعد. وما لم يُقدِموا على انتخابات شفافة فيما هم يسعون الى تفخيخها قبل تطييرها ان لم تسمح لهم الظروف بالبطاقة «التمويلية – الانتخابية» وبالقدرات لشراء الضمائر، وهم على علم ودراية بأنّ هذه المحطات مطلوبة قبل القيام بأي خطوة انقاذية ونقطة على السطر. فصندوق النقد الدولي له شروطه ومعه المجتمع الدولي والدول المانحة، ولن يوفروا للمنظومة دولارا واحدا قبل الانتخابات مخافة استغلاله.
والى تلك المرحلة سيبقى السباق قائما بين الحرص الدولي على مصلحة لبنان، وسعي المنظومة لتطويع المجتمع الدولي مرة اخرى. ففي ظل وجود من استسلم لعجزه، وآخر لا يريد التنازل عن حق يعتبره مقدسا له ولطائفته… هناك آخرون لا يريدون لكل ما رسم ان يتحقق، وفي ظنهم ان انتصار محورهم بات مضمونا ومن السهل قيادة «لبنان المفلس» واللبنانيين «الشحادين» الى حيث المحيط الذي «يدمجهم في عاداته ونمط عيشه وفي بطاقات الاعاشة». فهل هي حرب داحس والغبراء؟ الجواب عند من يَعِش ليرَ!.