مخاض التأليف «المُمنهج» الذي ثبُت عدم نجاعته على مدى 13 شهراً، راكم الأكلاف الباهظة وزاد من انفلات الوضع العام على كل الاتجاهات الوطنية والأهلية، وهدّد تكليف دولة الرئيس نجيب ميقاتي. وهذا الواقع الغني عن التوصيف، حتّم على المهتمين بالشأن اللبناني وببراغماتية قيادية وإدارية، وبمواكبة فرنسية مباشرة، تسهيل ولادة حكومة ميقاتي ولو كان ظاهرها يشير إلى اختصاصيين وغالبيتهم FRANCOPHONES وتختلف بالجوهر عن حكومة الاختصاصيين المهنيين والمستقلين عن الأفرقاء السياسيين، التي دعت إليها هذه الدول مراراً وتكراراً كشرط مسبق للدعم المالي.
ومن هذا المنطلق، أعلنت كل من فرنسا والولايات المتحدة وكذلك الاتحاد الأوروبي ومصر، الترحيب بالحكومة، ونيّات الدعم الكمّي والنوعي لمساعدة لبنان في السيطرة على قوة انحداره العمودي الحرّ والكلّي، وبالتالي إطلاق عملية إنقاذه وتعافيه، وفقاً لخريطة الطريق الفرنسية التي وافق عليها مبدئياً ومنذ إطلاقها، جميع الأفرقاء السياسيين، ما عدا تحفّظ بعض الأفرقاء عمّا صدر في حينه.
إذاً، التطبيق الكامل والشامل المبرمج والفاعل والفعّال هو بيت القصيد، والحدّ الفيصل في تقويم أداء الحكومات، والأهم القدرة على اتخاذ القرارات الصحيحة لما فيه المصلحة العليا.
من هذا المنطلق، فإنّ حكومة «معاً للإنقاذ» لا تملك ترف الوقت ولا كلفة الغلط ولا مساكنة التعطيل، وعليها الحرص والتأكيد على تزامن وتكامل مسارات التخطيط والعمل الآنية والاستراتيجية. فعلى الصعيد الآني، المباشرة في التعامل مع هموم الناس وشجونهم في الصحة والتربية والمحروقات، وتفعيل عمل المؤسسات والتعامل مع بطاقة التموين على أنّها تدبير اجتماعي مرحلي ينتهي بإعادة الحياة إلى الاقتصاد الوطني، وإنشاء شبكة أمان اجتماعي كاملة وشاملة وتحديد مصادر تمويلها وتحصينها من الهدر والاستفادة منها بغير حق. وبالتزامن، التحضير للاجتماع المرتقب مع صندوق النقد الدولي، ومراجعة خريطة الطريق لجهة التأكّد من شموليتها وتكاملها، وتحديد أفضلياتها ـ كهرباء، قضاء، حوكمة – على أهمية هذه الأفضليات بالنسبة إلى إفراج الدول المانحة عن المساعدات المنتظرة. وعليه، التحقق ومراجعة ما أُنجز من إصلاحات وفقاً لخريطة الطريق تشريعاً وواقعاً وعملياً.
في حين أنّ من المسلّم به أنّ الإصلاح في المطلق وبشقيه النوعي والكمي ينتج مردوداً مالياً من جهة، بترشيد الأكلاف وبضبط الهدر ومحاربة الفساد من جهة أخرى. وكذلك إرساء أسس وسياسات وسبل وضوابط الإدارة الرشيدة. ويشكّل إصلاح القطاع العام مِفصلاً أساسياً ومهمّاً من خريطة الطريق الإصلاحية، والتي يعلّق عليها صندوق النقد الدولي أهمية مصيرية، وهذه الأهمية ترتكز على: إعادة هيكلة القطاع المصرفي والمالي والنقدي الذي تهاوى بثقله عمودياً ولأسباب من خارجه مالية سيادية، وبفعل استهدافه وأبلسته على يد جهات لا داعي لذكرها، وعضوياً داخله للتراخي في إدارة الأخطار السيادية.
في هذا الإطار، اتخذ مصرف لبنان المركزي إلى الآن بعض الإجراءات المتعلقة بزيادة رؤوس أموال المصارف بنسبة 20 في المئة، وتكوين سيولة إضافية عند المصارف المراسلة بنسبة 3 في المئة من رأسمالها. كما أصاب المصارف بعض التحجيم القسري على جانبي موازناتها بفعل انحسار عملياتها المصرفية إلى حدّ كبير بعمليات السحب المنظّم من المصرف المركزي من الودائع، والعمليات الناتجة من إدارة محافظ القروض الموجودة في دفاترها، ما حتّم تقليص عدد فروعها وترشيد مواردها البشرية. ولكن في رأيي، إنّ إعادة هيكلة المصارف المطلوبة تتعدّى ما حصل إلى الآن، فإنّ أي إعادة هيكلة للمصارف معقولة وذات معنى، يجب أن تحدّد حاجة المصارف إلى السيولة، وأن تشير إلى متى ومن أين ستتأمّن هذه السيولة. وكذلك يجب توضيح ماهية مصير ودائع الزبائن، ومتى سيتسنّى لهم الوصول إليها، وكيف سيتمّ ذلك وكم.
وكذلك من الأهمية في هذا المجال، تبيان وتحديد مدى تأثير إعادة هيكلة المصارف في هذا المحتوى على الصناعة المصرفية والمالية في لبنان، كقطاع أعمال من جهة وكدور من الممكن أن يقوم به هذا القطاع في أي عملية مرتقبة لإنقاذ الاقتصاد وتعافيه وتطويره.
أما في ما يتعلق بإعادة هيكلة المصرف المركزي، على حدّ علمي لم يُصدر المصرف أي معلومات مباشرة في هذا الخصوص، باستثناء ما يَرد في الموازنات التي ينشرها.
السؤال الذي يفرض نفسه في هذا المجال، هل أنّ المعلومات المالية الحاضرة كافية لتحديد خسائر المصرف المركزي وتوافق الجهات المعنية بما فيها صندوق النقد الدولي عليها، أم أنّ هذا الأمر يستدعي انتظار نتيجة تحقيق ALVAREZ & MARCHAL الجنائي المطلوب لحسابات المصرف المركزي والدولة.
في السياسة النقدية، إنّ الفوضى الحاصلة في تسعير العملة الوطنية في السوق، تفترض الإجابة عن الأسئلة الآتية:
ما هو مصير هذه الفوضى؟
ما هي السبل والموارد النقدية لتجفيف نشاطات سوق سوداء منظمة ومسيطِرة، وذات اتساع وعمق يفوق بكثير ما قد يظنّه البعض؟
الجواب البديهي والمهني يتمثل بتوحيد سعر الليرة واستعادة المصرف المركزي لدوره في صناعة سوق سعر صرف العملة وإدارة السياسة النقدية بما فيها التضخم، وفقاً لما تقتضيه هذه الإدارة من مهنية وإدارة رشيدة. كما يلزمه موارد نقدية ودعم مستدام. مع العلم أنّ توحيد سعر الصرف في السوق ليس مبادرة منفردة ولا يأتي من فراغ وكذلك إدارة ناجحة للسياسة النقدية، بل أنّه نتيجة لأداء إيجابي وإدارة رشيدة للاقتصاد الكلي، في مناخ أعمال إيجابي ومحفّز وعلى أسس ثابتة ومستدامة.
إنّ العلاقة بين سياسة نقدية فاعلة وأداء اقتصادي فعّال أساسية لنمو اقتصادي صحي، وبناء قوى تنافسية مؤثرة وأمن وأمان اجتماعيين.
من هذا المنطلق، إنّ إعادة السياسة النقدية إلى المصرف المركزي وتوحيد سعر الصرف، وتعويمه في المحتوى النوعي والموارد النقدية المطلوبة، ضمن هامش من الممكن إدارته، يشكّل أهمية قصوى لتحقيق الأهداف المالية والاقتصادية والاجتماعية المرجوة لأي خطة تعافٍ ونمو اقتصادي مرتقبة.
وفي الديْن السيادي، إنّ اعتراف الدولة بديْنها السيادي والإقرار المباشر بمسؤوليتها الكاملة تجاه هذا الديْن، انطلاقاً من تقرير مصير الامتناع DEFAULT «رومانسي» عن دفع السندات الدولية التي صدرتها، من شأنه أن يرسل إشارة مهمة إلى مسار الحلول المتوخاة لـ «الحالة اللبنانية».
لا تختلف المفاوضات مع صندوق النقد في المبدأ من حيث التنظيم والإدارة والتحضير المهني سوى في بعدها الوطني وعمق واتساع مجال المفاوضات، وما سيترتب عليها من قرارات والتزامات مالية وإجرائية، والتي من الممكن أن تنتج تداعيات متعددة الجوانب والاتجاهات الحياتية والسيادية القصيرة والمتوسطة. وعليه يجب أن تحظى المفاوضات في المبدأ بتوافق وطني وبالتالي الاشتراك في المفاوضات بفريق متجانس ومتضامن وكفوء مهنياً وتقنياً، واضح الأهداف وواعي الأكلاف المحتملة ومدى تداعياتها والتزام حدود التفاوض المرسومة، وعلى أن يضمّ أعضاء من «أصحاب الحق» STAKE HOLDERS الأساسيين، والذين من الممكن أن تؤثر عليهم المفاوضات بالسلب أو بالإيجاب مادياً أو معنوياً. ومن الممكن أن يكون هؤلاء أعضاء دائمين في الفريق أو يشاركون على أساس كل حالة بمفردها، ولكن دائماً ضمن انضباط تام داخل المفاوضات والتزام المحاكاة المسبقة لجدول أعمال الجلسة المنوي انعقادها، التي في رأينا، على فريق المفاوضات أن يقوم بها، بما فيها مداخلات أعضاء الفريق داخل الجلسة كما تقتضيه الحاجة. وكذلك تحديد آلية إحاطة جميع المعنيين وأصحاب القرار على الصعيد الرسمي بمجريات الجلسة ونتائجها، ليصار إلى البناء على كل شيء مقتضاه.
على الفريق المفاوض الحرص على انطلاق المفاوضات من خط متواز، وأن تكون متكافئة وموجّهة للنتائج، وإنما بتماسك مهني في مواجهة الضغوط، وتمسّك مبدئي بمصلحة لبنان العليا المعنوية والمادية وبسرعة لا تسرّع.
من ناحية المضمون الاستراتيجي للمفاوضات، أرى أنّ على لبنان من خلال الفريق المفاوض السعي إلى تقديم خصوصية «الحالة اللبنانية». قد يكون من الصحيح، أن تتقاطع أسباب هذه «الحالة» وعمق تداعياتها الهيكلية وإفرازاتها الاقتصادية والمالية والنقدية، مع حالات مماثلة في دول أخرى. لكن لبنان يتميّز عن هذه الدول في هذا المجال، بكون تمويل الغالبية الساحقة من ديْنه العام هو ودائع زبائن المصارف.
وفي هذا السياق، إنّ القطاع الخاص في لبنان المعروف بديناميته والمتميّز بفرادته ومهاراته في الأعمال، قد «حُمّل» قطاعاً عاماً فاسداً غير عملي وغير منتج. المطلوب الحفاظ على الودائع كما ذكرت سابقاً، وإعادة إحياء القطاع الخاص. وعليه أرى أنّ نموذج صندوق النقد الاقتصادي ONE SHOE FITS ALL الذي لم ينجح في أكثر من موضع، وعلى رغم التعديلات التي أُدخلت عليه، لن يكون فاعلاً بالنسبة إلى لبنان. وفي رأيي وبحسب خبرتي، فإنّ لبنان ليس غواتيمالا ولا فنزويلا ولا الأرجنتين ولا قبرص ولا اليونان. وهذا ليس كبرياء ولا تكبراً، وفي الواقع في بعض الحالات حسرة وتحسراً. لذلك أعتقد أنّ لبنان يحتاج إلى نموذج إنقاذ وتعافٍ، يبني على ما تبقّى من قدرات في القطاع الخاص، بما فيه المصارف، وبالتالي ودائع الناس، لإحياء قلب القطاع الخاص والاقتصاد. وفي الوقت ذاته، إعادة تأهيل وتطوير وحوكمة القطاع العام للقيام بتطوير وتبنّي وتطبيق إصلاح مالي وعملاني وعملي، من شأنه أن يحوّله مع الوقت من عبء على الاقتصاد إلى محرّك للنمو.
كلمة حق تُقال وإلى حدّ علمي، إنّ إدارة صندوق النقد الدولي العليا، وبالتالي الإدارة المعنية مباشرة بلبنان، على اطلاع لصيق وكامل على تطورات الحالة، وهم على تواصل مستمر مع المعنيين خارج لبنان وداخله. كما أنّهم على انفتاح تام للوصول إلى حل متوازن يخدم مصلحة لبنان العليا والمستدامة على الصعيدين الآني والاستراتيجي.
أعتقد أنّ هذا المناخ العام، يشجع الفريقين المفاوضين على التفكير في حل ليس فقط من خارج الصندوق، بل في المقام الأول من دون الصندوق. مع المخاطرة إلى أن أُتهم بالجنوح إلى التقنية الصافية، أرى للأهمية أنّ لا بدّ من لفت النظر على سبيل المثال وليس الحصر، إلى اثنتين من النسب المالية التي يضمّنها صندوق النقد في أي نموذج إصلاح مالي، وهي:
1 – الودائع إلى الناتج المحلي الإجمالي.
2 ـ الديْن العام إلى الناتج المحلي الإجمالي.
كما هو واضح، الودائع مباشرة وغير مباشرة هي في أساس هاتين النسبتين. وكما ذكرنا سابقاً، الدين العام مموّل بمعظمه من الودائع. وواقع هاتين النسبتين الحالي، بغض النظر عن أي سعر تحويل للناتج المحلي إلى الدولار، انطلاقاً من السعر الرسمي 1500 ليرة للدولار إلى سعر السوق السوداء الحالية، يفوق بأضعاف مضاعفة النسب المطلوبة من صندوق النقد، وهي على حد علمي، تدور حول 1.2 – 1.3 مرات في ما يتعلق بنسبة الودائع الى الدخل الأهلي الإجمالي، ونحو مرة واحدة نسبة الدين العام إلى الناتج الأهلي الاجتماعي.
كما أنّ أهمية هاتين النسبتين تنسحب على مطلب الصندوق المتعلق بإعادة التوازن إلى المالية العامة. وعليه، تشكّل هذه النسب الخطر الحقيقي على الودائع واعتمادها في الحالة اللبنانية الراهنة غير جائز ولا يجوز، لا مهنياً ولا علمياً وبالأخص أدبياً. والخطر عينه، يكمن في مسمّى التوزيع العادل للخسائر بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف.
عانى المودعون من انتقاص حقوقهم المعنوية والمادية المتمادي بفعل تجلّيات HAIR CUT المقنّعة، مستوى فوائد متدنٍ جداً، رسوم وعمولات عالية، وصول محدود وانتقائي واستنسابي إلى الودائع الخ… أكثر بكثير من طاقتهم.
المطلوب من حكومة «معاً للإنقاذ» بكل مَن تمثّل، أن تبادر بكل ما هو ضروري، إلى حماية ودائع الناس والإتاحة لهم الوصول إليها.
أنا لا أشارك في الضرورة الرأي القائل، إنّ هذه الحكومة انتقالية، بل أن المطلوب من هذه الحكومة أن تكون تأسيسية، وأن تحقق نجاحات مقنعة وثابتة في التعامل مع مشكلات البلد والناس الحالية. وأن تكون قادرة على العمل والإنتاج بموجب أولويات محدّدة، تعطي مردوداً مباشراً إيجابياً على الحالة العامة، وأن تكون متماسكة فرادى ومترابطة مجموعة. وبما يوحي للداخل والخارج، بوضع البلد على عتبة إعادة بناء الثقة، لأنّ الدولة بعدما كانت مسبباً لتلاشي جميع «الثقات» هي الآن الراعي حكماً لاستعادتها.
يجب على الحكومة أن تدرك أنّها عرضة للمتابعة اللصيقة في الداخل والخارج، وأنّ استقلالية الوزراء وقدرتهم على القول «لا» للأفرقاء السياسيين، تصدق إن رأينا SEEING IS BELIEVING ، وكذلك مهارات الوزراء في إدارة الشأن العام. علماً أنّ لبنان قد يكون أصغر دول العالم، لكن إدارته هي من الأكثر تعقيداً وصعوبة، وعليها أن تثبت بالأداء وثم الأداء والأداء المقنع والمؤثر أنّها مؤهلة للاضطلاع بمهمات عدة مترابطة وفاعلة بجدارة، وأنّ من شأنها عن حق أن تكون حكومة تأسيس استباقية لبنية مهمة إنقاذ البلد وتعافيه، وليس فقط حكومة ردّات فعل انتقالية. وعليه، فلنعطها ليس فقط فائدة الشك بل كذلك فائدة الأمل.