إهمال قضايا طرابلس سمة الحكومات المتعاقبة
دروب ميقاتي.. توصله إلى طاحونة المعارضة
الأرجح، أنّ نجيب ميقاتي لن يصاب بنوبة تأنيب ضمير سياسي أو اتهام ذاتيّ بالتسرع والانفعالية، بعدما أرفق ورقته البيضاء التي أسقطها في الصندوقة الرئاسية في جلسة 31 تشرين الأول، بعبارة: الى معارضة تصويب الأداء در!
فالرجل يرصد من بعيد انطلاقة العهد البرتقالي الذي سلّم أولى حكوماته الى سعد الحريري، زعيم أكبر كتلة نيابية سنيّة. صحيح أنه منح صوته حكوميا لمصلحة رئيس «تيار المستقبل»، على قاعدة أنّ أولى حكومات العهد لا بدّ أن تحال رئاستها على «الاسم الأول» في الطائفة السنية، لكن هذا لا يعني أنه مستعد لوضع «شيك على بياض» في جيبة الحريري.
المحاسبة ستؤدي دورها وستفعل فعلها إذا ما تبيّن أنّ السلطة التنفيذية المحمية بعضلات «جاروفة» سياسية جمعت الخصوم على طاولة واحدة، لن تكون على قدر آمال اللبنانيين وتطلعاتهم.. وهذا ليس بالمستغرب ولا بالمستحيل، كما تدلّ أولى الاشارات.
لا داعي حتى الآن لـ «إلقاء القبض» على التركيبة الحاكمة وهي ترتكب «معاصيها»، فهو يعرف جيداً أنّ لهذا العهد معارضون «سلفا». لن يحتاجوا الى اثباتات وبراهين كي يقفوا بالمواجهة، ويتهيأوا لانتهاء فترة سماح معقولة، من باب اللياقة السياسية لا أكثر.
كُثر من هؤلاء عبّروا عن امتعاضهم للتفاهم السوريالي العابر للاصطفاف الذي أتى بالعــماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، واشـتكوا من تعطيل دام أكثر من خمسين أسبوعاً تحت عنوان «الرئاسة للرابية أو لا رئاسة». وهــؤلاء ليســوا «ميقاتيين»، وإنما من كل الشرائح. ويمكن لهم أن يلتقوا تحت مظلة «مــعارضة وطنــية»، اذا ما قدّر لها أن ترى النور، أو أن تختار»الدينامو» المقبــول من أطيافها.
اذاً، رمى ميقاتي «طعــم» المعارضة في بحــر الحكومة، بانتظار ولادتها الصعبة، ولا يبدو أنّ الرجــل معنيّ باللجــوء الى الخطاب التحريضي الطائفي، مع أنه قد يكون الأســهل والأســرع تحصيلاً بمردوده لأنه من المقتنعين بأنّ النبــرة المذهبية تجرّ نبرات مذهبية مضادّة.
الأرجح أنّ ميقاتي سيبتعد عن الشعارات الكبيرة والأوصاف المضخّمة والمنمقة. سيكتفي بالالتصاق بقضايا الناس واهتماماتهم اليومية والمعيشية. وهذه شؤون لا تميّز بين شارع وآخر ولا بين طائفة وأخرى. الكل في هذا المربع أولاد «حواء وادم»، يتساوون في أوجاعهم وشكواهم، علما أن هناك من يشكك في القدرة على التقاط نبض الناس وخصوصا أن طرابلس تمثلت سياسيا كما لم تتمثل من قبل في حكومة ميقاتي الثانية لكن النتيجة على مستوى اقتصاد المدينة واجتماعها كانت شبه معدومة.
لهذا، يبدو الاختبار الجدي أمام الحكومة الحريرية الجديدة، ليس بالسؤال عما إذا كانت تمثّل طرابلس والشمال سياسيا، بل بقدرتها على محاكاة تطلعات الناس ومعالجة بعض قضاياهم الحياتية التي لا شأن للخلافات السياسية فيها.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، ايجاد حلّ مستدام لمكبات النفايات، لا يحتاج الى تفاهم على الحرب السورية، وتأمين الكهرباء على مدار الساعة لا يرتبط أبداً بالاستراتيجية الدفاعية، واعادة ترميم البنى التحتية لا تنتظر تحرير مزارع شبعا. ثمة مسائل يمكن للحكومة منحها الأولوية في العمل والمعالجة من دون ربطها بملفات كبيرة معقدة.
كما أنّ ابن القبيات، على سبيل المثال لا الحصر، لا تعنيه ابداً استعادة الجنسية للمغتربين، وابن باب التبانة لا علاقة له بحرب اليمن كما أن ابن الجنوب لا يهتم كثيراً لمصير النووي الإيراني. لهؤلاء اهتماماتهم البسيطة التي يمكن للحكومة أن تسوّيها من دون التحجج بالخلافات العميقة بين مكوناتها على المسائل الاستراتيحية.
ليس هذا فقط، ثمة ملف لا يقلّ أهمية عن تلك القضايا، وهو يعني كل اللبنانيين. قانون الانتخابات. باعتقاد المقربين من رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، «لا يمكن للحكومة ومعها رئيس الجمهورية الإصلاحي تجاوز هذا القانون مهما كانت المبررات. انه الاختبار الأصعب والأكثر أهمية لأنه مهما بلغت متانة التفاهمات السياسية التي تحمي التركيبة الحاكمة، فهي لن تتمكن من الصمود إذا لم تضع قانون انتخابات سليما يأتي بالتمثيل النيابي السليم كي يستقيم الوضع».
يعتبر هؤلاء أنّ حرص رئيس الجمهورية كما جاء في خطاب القسم على تطبيق اتفاق الطائف بالتوازي مع اصرار «تيار المستقبل» على أن يكون حارس هيكل «الطائف»، لا يكفيان اذا لم تكن ثمرة هذا الحرص قانوناً انتخابياً يعتمد النظام النسبي ضمن الدوائر الكبيرة.
في الآونة الأخيرة، جمع ميقاتي كوادر «تيار العزم» في المنية والضنية ليبث أولى اشارات التمدد شمالاً، ولكن هذا لا يعني أبداً أنه مستعجل في دقّ ناقوس المعــارضة. يعطي الحكومة فسحة محددة بالزمان والمهام، مع أنه يميل الى الاعتــقاد أنّ سلوك خيار المعارضة لا مفرّ منه إذا ما تبيّن أنّ الحكومة ستتذرع بإصبع خلافاتها لتختبئ من القيام بواجباتها تجاه الناس سواء في ما يخصّ القضايا الحياتية أو قانون الانتخابات.
وهذا لا يعني أيضاً أنّ الرجل قد يقفل خلفه كل أبواب التواصل مع سعد الحريري، لأنه مصرّ على أن تكون معارضته بنّاءة غير هدامة، قادرة على توجيه الرسالة من دون تفجير «مغلّفها».
هو اليوم في مرحلة المراكمة. يراقب ما ومن حوله ويرصد الخطوات. مغريات المعارضة تشدّه صوبها وقد بدأ يتجاوب معها، بعدما أكد أنّ «الطريقة التي يجرى فيها تشكيل الحكومة ليست الطريقة السليمة التي يتمناها اللبنانيون».. وكل المؤشرات تدل على أنه يسلك درب طاحونة المشاغبة.