لا شكّ في أنّ حكومة الرئيس نجيب ميقاتي ستذكر في كتاب التاريخ، بـ”البنط العريض”، ليس لكونها شاهدة حيّة على أسوأ حقبة اقتصادية – مالية يعيشها اللبنانيون من بعد “المجاعة” التي تعرّضوا لها خلال الحرب العالمية الأولى، أو لكونها ستنجح في تحقيق إنجاز تأسيسي للانتقال بالاقتصاد اللبناني من الاقتصاد الريعي القائم على الخدمات “الهشة” و”الورقية”… بل لأنها الأسرع في دفن رأسها في التراب!
في العاشر من أيلول الماضي، أعلن الأمين العام لمجلس الوزراء محمود مكيّة مراسيم تشكيل حكومة ميقاتي بعد 13 شهراً على الفراغ الحكومي وبعد أكثر من شهر ونصف الشهر على تكليف النائب الطرابلسي تأليف الحكومة، والذي اكتفى يومها بالتعبير “عن أمله بإيقاف الانهيار في لبنان، والقدرة على النهوض بالحكومة لتأمين الحد الأدنى من احتياجات الشعب اللبناني”.
في تلك اللحظة، بدت الحكومة أشبه بخلية أزمة اقتصادية، كونها ضمّت بين وجوهها، أكثر من “خبير” و”ضليع” و”متمرّس” في هذا المجال: نائب رئيس الحكومة، وزير الخارحية، وزير المال، وزير الطاقة، وزير الاقتصاد، وزير البيئة… لكون مهمة هذه الحكومة الأبرز لا بل الأوحد هو وضع خطة انقاذ مالية بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي… وإجراء الانتخابات النيابية.
وقع الانهيار، والدعم عن المواد الأولية رُفع، وطوقت نيران جهنم كلّ اللبنانيين. لذلك كان من المتوقع أن يقدّر اللبنانيون أي خطوة انقاذية قد تقدم عليها الحكومة للتخفيف من وطأة التدهور وتطويقه بمجرّد تسريع المفاوضات مع صندوق النقد، خصوصاً وأنّ خطّة التعافي التي وضعتها حكومة حسان دياب قد تكون منطلقاً لأي خطة جديدة يُعمل على تحديثها. وإذ بالأزمات تقع الواحدة تلو الأخرى.
بعد نيلها الثقة من مجلس النواب، لم تتمكن حكومة ميقاتي من عقد إلا ثلاث جلسات لمجلس الوزراء، في 29 أيلول، 6 تشرين الأول، و12 تشرين الأول التي كان يفترض أن تشهد على ولادة صيغة تفاهمية (وافق عليها رئيس الجمهورية) وتعهد وزير العدل بصياغتها، لفصل المسارات القضائية في ملف انفجار المرفأ لإحالة السياسيين من المدعى عليهم إلى المجلس الأعلى للدفاع، (بدليل انتقال النقاش إلى جدول الأعمال والاتفاق على التعيينات القضائية)، قبل أن يعود رئيس الجمهورية عن موافقته ويتمّ رفع الجلسة.
خلال يومين، تنهي الحكومة مهلة الـ100 يوم المتعارف عليها كمهلة اختبارية قبل الحكم على بقية عهدها. ولكن، حكومة ميقاتي وضعت على رفوف التقاعد المبكر بعد أقل من شهر على نيلها الثقة في عشرين أيلول الماضي، لتصير “حكومة ماشية لكن مجلس الوزراء مش ماشي”، كما أكد رئيسها في الأول من كانون الأول الماضي.
حاول النائب الطرابلسي أن يعالج الخلل الذي أصاب حكومته من خلال مبادرة قادها مع رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري خلال احتفال عيد الاستقلال، وكاد ينجح لولا تراجع العونيين عن موافقتهم، أسوة بما حصل مع المبادرة التي طرحها أيضاً البطريرك الماروني بشارة الراعي. واعتقد أنّ بامكانه أن يستنسخ مشهدية “الانتصار” بعد اقناع وزير الاعلام جورج قرداحي بالاستقالة مع دخول الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون على خطّ الأزمة اللبنانية – السعودية. ولكن محاولات ميقاتي باءت بالفشل.
ومع ذلك، لا يبدي الرجل أي أسى أو ندم على ترؤسه حكومة الانهيار… أو حماسة لتفعيلها. يدرك أنّه يسير في حقل ألغام قد ينفجر في أي لحظة ولذا يتروى في مساره، ويحاول “النأي” بحكومته عن الصراعات الداخلية التي تزداد حماوة مع اقتراب مواعيد الاستحقاقات الدستورية، النيابية والرئاسية، ويستعين بما تيسّر من توليفات قانونية لكي لا تصير حكومته حكومة تصريف أعمال لا أكثر.
فـ”حزب الله” غير مرتاح لمسار التحقيق العدلي ويرفض العودة إلى مجلس الوزراء إلا بعد الحصول على التطمينات اللازمة، فيما رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل يضغط لتمرير رزمة التعيينات الإدارية، وقد تكون الأكبر من حيث حجمها نظراً للشواغر الهائلة في الإدارة، لاستثمارها في الانتخابات وضمان نفوذه في الإدارة العامة بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون. ولهذا يتصدى له الرئيس بري ويرفض إعادة احياء جلسات مجلس الوزراء كي لا تتحقق رغبات باسيل.
بالتوازي، فإنّ ميقاتي مقتنع كما البعض من وزرائه، أنّه بالامكان سدّ فجوة عدم عقد جلسات مجلس الوزراء من خلال المتابعات الدائمة لعمل وخطط بعض مكونات حكومته. وبالفعل بعض هؤلاء يعمل وكأنّ الحكومة بكامل دسمها ونشاطها السياسي ويستخدم سياسة التطنيش على واقع عدم انعقاد جلسات مجلس الوزراء، ويعدّ ملفاته لكي تكون جاهزة في حال “فُرجت” على الحكومة وأفرج عنها. ولكن في المقابل، هناك وزراء لن يتذكر اللبنانيون، حتى أسماءهم!
ولكن يرجّح أن يزداد الضغط والتشنّج خصوصاً وأنّ رئيس الجمهورية قرر عدم مسايرة رئيس الحكومة بتوقيع الموافقات الاستثنائية التي تغنيه عن مجلس الوزراء، وثمة رزمة موافقات تنتظر “الفرج”، ومنها عقد التراضي لتمديدات الغاز المصري، بدل النقل للقطاعين العام والخاص، المساعدات الاجتماعية، تجديد عقود المتعاقدين مع القطاع العام وهؤلاء يشكلون حوالى 40% من القطاع العام وبعضهم لديه تواقيع بالصرف، هيئة الإشراف على الانتخابات والاعتمادات اللازمة للانتخابات…
هكذا، ستمر محطة المئة يوم بلا أي انجازات، على عكس رئيس الحكومة السابق حسان دياب الذي وقف في حينه على المنبر يعدد انجازات حكومته، وكان أول بنود تلك الجردة، خطة تعافٍ مالية – اقتصادية. ولكن حتى استعانة ميقاتي بالاجتماعات الوزارية المصغّرة والموسّعة، لن تسمح له بتعداد أي هدف تمّ تحقيقه لمناسبة مرور مئة يوم على عودته إلى السراي الحكومي… إلا اذا اعتبر أنّ اتصال وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان انجازاً.