لا يمكن إلا التوقف عند شمولية وأهمية ما أدلى به نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، في تناوله كلّ الملفات العالقة في المنطقة العربية. عكست المقاربة لغة العارف بصراعات المنطقة وتقاليدها وخصائص عيشها، كما عكست القدرة الواثقة على إخضاع مجتمعاتها للتفكيك وإعادة التركيب من خلال فهم عميق لطبائع أنظمتها السياسية وثقافاتها الكامنة في الدين واجتماعياته وفِرَقه وطوائفه. أسقط الدبلوماسي العريق دون حرج كلّ المسلمات والمحظورات التي ترسّخت عبر عقود تحت ذريعة «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، أو تلك التي تأسست في كَنَف الأصوليات الدينية تحت ذريعة مقاومة «الغزو الثقافي الغربي والديمقراطة لا تُفرض بالقوة».
قدّم السيد بوغدانوف رؤية حكومته لكلّ القضايا العالقة على مستوى الصراع العربي الإسرائيلي، كما على مستوى الحروب الأهلية في كلّ من سوريا والعراق واليمن، بذهنية التعامل مع مسألة أو مشكلة محليّة تحتاج إلى حلّ. الصورة المعروضة تؤكّد أنّ ثمة مشروعاً تكاملت حلقاته في الأمن والسياسية وربما في الإقتصاد، وصيغت تطبيقاته للتعامل مع منطقة الشرق الأوسط.
جاهر بوغدانوف بعلاقة روسيا التاريخية بالقضية الفلسطينية وبعلاقتها المتينة مع إسرائيل، ودعا ممثّلي حكومات كلّ الأطراف في المنطقة للجلوس إلى طاولة مستديرة وتطبيق مبادرة السلام العربية، وهي واضحة جداً برأيه: «السلام وتطبيع العلاقات مقابل الإنسحاب من كلّ الأراضي المحتلّة». تجاهل مبعوث الرئيس بوتين إلى منطقة الشرق الأوسط كلّ مسوّغات الممانعة والتجييش التي يُطلقها حلفاؤه، النظام الإيراني والنظام السوري، ولم يخفِ تواصله مع كلّ أطراف المعارضة في سوريا واضعاً معادلة سليمة وحكيمة، «لا نريد أن ينتصر أي طرف بل أن تتصالح الأطراف»، مقدّماً مبدأ «لا غالب ولا مغلوب» وتجربة لبنان كنموذج يُحتذى. وأضاف: «نحن نقرأ باهتمام المسائل بمشاركة كلّ الأطراف الإقليمية الفاعلة،… وأعتقد بأنّ هذا مدخل مناسب لتقارب إيراني – أميركي وتقارب إيراني – سعودي. هذا هو المدخل الصحيح للحديث عن التسوية المطلوبة في سوريا، نحن نتحدث عن نظام علماني ليس علوياً وليس شيعياً وليس سنياً وليس مسيحياً».
في ظلّ هذه البراغماتية وهذه العقلانية في إعادة تركيب المنطقة بكلّ تفاصيلها العربية والإيرانية، السنيّة والشيعية، التركية والكردية والسورية وِفق الإعتبارات السياسية للمصالح الروسية الأميركية، وفي ظلّ النظام العلماني المطروح في سوريا، كيف يمكن قراءة مستقبل الصراعات الداخلية اللبنانية وتحديداً الصراع على قانون الإنتخاب تحت عنوان «صحة التمثيل المسيحي؟»
لا شك أنّ عدم التجاوب الذي يستشعره رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل، من قِبَل حلفائه قبل خصومه، مردّه إلى الصيغ الإنتخابية التي اقترحها والتي أظهرت شراهة موصوفة في محاولة إلتهام كلّ المواقع المسيحية على امتداد الجغرافيا اللبنانية. قانون الإنتخاب طُرح كأنّه قَدَر محتوم يأتي في سياق طبيعي لإنتصار سياسي سجّله التيار الوطني الحر وحلفاؤه على الفريق الآخر الذي لا يملك سوى خيار الإذعان!!!! وما يزيد الموقف توتراً هو التماهي الذي يظهره الوزير باسيل كرئيس تيار سياسي مع رئيس الجمهورية ميشال عون حين يطلق مواقف جازمة بإسمه.. «لن يوقّع مرسوم دعوة الهيئات الناخبة في ظلّ قانون الستين،… إننا ذاهبون إلى إنتصار جديد …. سننجز قانوناً للإنتخاب يشبهنا، ومن زماننا، يعطي الحرية لكلّ الفئات الطائفية والمناطقية والحزبية، لكي تتمثّل في مجلس النواب».
إنّ مشكلة الديمقراطية التوافقية التي نطبّقها خلافاً للدستور، تكمن في أنّها تجعل النظام السياسي كلّه يدور حول الحقوق السياسية للجماعات الطائفية المكوّنة لمجتمع الدولة. إنّ إدارة هذا النوع من النزاعات محكوم إما بتغيير الجغرافيا بالاستيلاء أو بالتقسيم، وإما بتغير الوضع الديموغرافي بالإخلاء القسري أو الدمج وإما بتغيير النظام والمؤسسات بتركيبات مختلفة لإقتسام السلطة. ولا شكّ أنّ هذه طرقة ذكية لدفع الإرادة السياسية نحو الخيار الأخير.
إنّ الصراعات الداخلية على السلطة في المجتمع اللبناني كسواها في المجتمعات العربية دخلت في صميم الإستراتيجيات الغربية والإقليمية من أجل التمهيد للسيطرة، والتجارب تُثبت أنّ الداخل لم يعد داخلاً وأنّ الخارج لم يعد خارجاً. البرغماتية الروسية الجديدة التي أخذت على عاتقها إعادة تركيب المنطقة قد تقبض على لعبة الهزيمة والإنتصار التي تمارسها الطوائف اللبنانية، وتلفح رياح العلمانية التي طرحها بوغدانوف في سوريا النظام الطائفي في لبنان!!!!
هل تصحّ حينها مقولة الوزير باسيل «أنّ قانون الإنتخاب أهم من رئاسة الجمهورية ويستأهل التضحية من أجله بكلّ شيء وحتى بالعهد»؟
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات