لو قدّر لميشال عون أن يصبح خليفة ميشال سليمان لكان، قبل كونه زعيماً مسيحياً ورئيس أكبر كتلة نيابية مسيحية، قائد الجيش الرابع الذي يدخل قصر بعبدا. الفارق الزمني يفرض نفسه هنا بين خلع البزّة المرقّطة والجلوس المفترض على كرسيّ الرئاسة الأولى، وما بينهما مسيرة سياسية عمرها 24 عاماً.
العسكري السابق يقف بالمرصاد اليوم لإمكانية وصول قائد الجيش الحالي العماد جان قهوجي الى الرئاسة، متأبّطاً قاموساً من المآخذ عليه. أما عامل الوقت فيقف ضد الرجلين معاً.
أصل الموضوع ينطلق من قناعة محض عونية بضرورة وصول رئيس ذي حيثية مسيحية وثقل شعبي يعوّضان نقص الصلاحيات. مواصفات لا تنطبق، برأي عون، على 99 % من المرشّحين المطروحين علناً أو في الكواليس، وبطبيعة الحال جان قهوجي واحد منهم.
أما حين يطرح اسم سفير لبنان في الفاتيكان العميد جورج خوري، الآتي من عالم المخابرات، أمام عون فيبتسم ولا يعلّق، خصوصاً حين لا يكون الوقت ملائماً للمزاح!
لا يريد عون أن يشكّل وصول قهوجي امتداداً لسلسلة عسكرية تشكّلت أولى نواتها عام 1958، وتبلور عنقودها الأول ثم الثاني في عهد الطائف مع اميل لحود وميشال سليمان.
خصومه يرون أن فيتو الرابية أساسه الشخص وليس المبدأ، متسائلين «لو وصل اليوم العميد شامل روكز الى قيادة الجيش فور انتخاب رئيس جديد، فهل كان سيتّخذ الموقف نفسه حين سيحين أوان الانتخابات الرئاسية في العهد المقبل؟».
عملياً تبدو الفوارق، بين الأمس واليوم، في وصول عسكري الى قصر بعبدا، مختلفة تماماً في الشكل والجوهر، لكن مع تجربتيّ اميل لحود وميشال سليمان تبلّورت الرغبة الفطرية لكل ضابط ماروني يدخل السلك بأن يكون يوماً ما مشروع رئيس.
شكّل فؤاد شهاب السابقة الاولى في انتخاب قائد للجيش رئيساً للجمهورية. إلا أن المدرسة الشهابية كانت استثنائية في تقديم نموذج فريد في أن يأخذ قائد الجيش مسافة من السلطة، يمارسها في حدود اللازم والمطلوب، ثم يعود أدراجه الى حيث يجب أن يكون.
قاد شهاب عام 1952 حكومة مدنية ثلاثية، بعد استقالة الرئيس بشارة الخوري، مهّمتها التمهيد لانتخاب رئيس للجمهورية. بعد أيام قليلة انتخب الرئيس كميل شمعون فعاد «الجنرال» الى قيادة الجيش.
قائد الجيش المنتخب رئيساً عام 1958 في تسوية شكّلت خاتمة لنزاع بين الرئيس شمعون ومعارضيه يقدّم استقالته بعد سنتين، معتبراً أنه أنجز ما أتى من أجله. طيّ صفحة «ثورة 58»، وإجراء انتخابات نيابية، وتحقيق المصالحة، والأهمّ وضع اللبنة الاولى لدولة المؤسسات وإصلاح الادارة. لكن الارادة النيابية تدفعه الى إكمال ولايته حتى يومها الاخير. بعدها وقف بقوة ضد التجديد لعهده «الذهبي».
يمكن الجزم أن زهد فؤاد شهاب، قائد الجيش ثم الرئيس، بالكرسيّ، لم يكن قابلاً للتكرار. حاول العماد إميل بستاني بكل قواه دخول القصر «فاشتغل سياسة» لكنه لم يفلح، لا بل دفع الثمن باتخاذ مجلس الوزراء قراراً بإقالته من قيادة الجيش قبل عام من إحالته الى التقاعد.
خلف بستاني في قيادة الجيش العميد جان نجيم، ثم العميد اسكندر غانم، ثم العميد حنا سعيد، ثم العميد فكتور خوري، ثم العميد ابراهيم طنوس، ثم العميد ميشال عون في عهد الرئيس أمين الجميل. سلسلة عسكرية لم تشهد «نتعات» رئاسية إلا مع تعيين عون رئيساً لحكومة عسكرية بصلاحيات رئيس جمهورية. هنا تغيّر كل الموضوع.
لعون مقاربته الخاصة والشفافة لتلك المرحلة، خصوصاً أن إعلانه «حرب التحرير» ضد السوري أظهره بمظهر الملتزم بالخيارات الإستراتيجية الوطنية وليس الباحث عن موقع. أما خصومه فلديهم ما يقولونه عن شغف لم ينته حتى هذه اللحظة بالجلوس على كرسيّ الرئاسة الأولى.
بعد الزعامة العسكرية اكتسب عون زعامة مسيحية منذ الـ 1990، ثم شعبية بعد عودته من المنفى عام 2005، أهّلته لأن يفرض شروطه كما يفعل اليوم، حين يتعلّق الأمر باستحقاقات مفصلية مثل انتخابات رئاسة الجمهورية. وعلى رأس هذه الشروط: «قهوجي من اليرزة الى المنزل».
أمام زواره، يقرّ بكل انسجام مع النفس، بأن عمره المتقدّم لا يقف حجر عثره أمام نضاله حتى الرمق الأخير. بعد أن خسر ورقة إجراء الانتخابات النيابية، لا يبدو عون محشوراً بواقع دفعه الى التعجيل ببتّ ملف الرئاسة وإغرائه بأن ذلك سيؤدي الى قطع حبل التمديد الطويل.
كمن يتناول فنجان القهوة الصباحي «على رواق» يتعاطى ميشال عون مع معضلة رئاسة الجمهورية. في قرارة نفسه يعترف بأن الجميع يتكتل ضدّ اكبر زعيم مسيحي لمنعه من الوصول الى حيث يجب أن يكون منذ العام 2009، وبأن حظوظ التسليم الخارجي والداخلي بأحقية انتخابه رئيساً للجمهورية صارت أضعف بكثير من السابق.
لكن رئيس «التكتل» الذي نخرته سوسة التمديد لا يزال يتمسّك بلائحة من الـ«لاءات»: لا للانسحاب من حلبة الرئاسة، لا للمساومة على مرشّحين «لا لون ولا طعم ولا رائحة لهم»، لا لانتقال جان قهوجي الى قصر بعبدا حتى لو غرق الجيش ببحر من المليارت أو صارت جرود عرسال مركزاً سياحياً للتزلج، لا عودة الى الوراء بعد الحوار المتوقّف مع الرئيس سعد الحريري.. ولا تراجع عن التحالف مع «حزب الله» حتى لو كان الثمن تصويت ميشال عون نفسه لرئيس جمهورية آخر.