مرَّ عيد الاستقلال على لبنان هذا العام مكتوباً بأحرفٍ من دم، بعدما قدّمَ الجيش اللبناني أغلى التضحيات لينقشَ لوحةً أخرى تُضاف إلى لوحات الجلاء على صخور نهر الكلب.
العدوّ الذي دحَره الجيش عام 2014، مغاير عن الجيوش والاحتلالات السابقة، فهو مختلِف عن جيوش الامبراطورية البيزنطية أو الرومانية، ولا يشبه جيش المماليك أو العثمانيين أو الجيش الفرنسي، وسلوكه أبشعُ من تصرّفات الجيش السوري، على قباحتِها، إنّما هو عدوّ يتغلغل في النفوس ليضربَ شعباً من داخلِه، إنّه «الفتنة» التي تستخدِم لاوطنيةَ البعض معبَراً للتَسلُلِ إلى وطن الأرز، والإرهابَ سلاحاً لتحقيق مآربها.
لم تتمّ الإضاءة على هذا الإنجاز النوعي للجيش، الذي لو لم يسارع إلى إخماد الفتنة في مهدها، لكانت «أفعى الفتنة» أردَت الوطنَ بعدما بثّت سمومَها في جسده. لذلك، تَعتبر قيادة الجيش أنّه إذا لم يكن هناك احتفالاتٌ في عيد الاستقلال، فهذا لا يعني أن لا وجود للاستقلال.
فالمعنى الحقيقي للعيد ليس الاستعراض العسكري أو الاحتفال في المدارس والجامعات، على أهمّية هذه الاحتفالات التي تنقل الصورة الحقيقية للبنان الفرَح وحبّ الحياة، بل إنّ الرمزية تكمُن في تثبيت هذه الاستقلالية على الارض، لأنّ الجيش يعمل على قاعدة: واحد زائد واحد يساوي اثنين، لا على وتر الخطابات الرنّانة وصوت الطبول.
تدركُ قيادة الجيش جيّداً، تأثيرَ غياب القائد الأعلى للقوّات المسلحة، أي رئيس الجمهورية حامي الدستور والاستقلال، عن قصر بعبدا. وفي غيابه تعرف أنّها مؤتمَنة على هذه الرمزية وتعمل لحفظ البلد وصَونِه، لأنّ بعبدا واليرزة مركزان متكاملان يمثّلان سيادة هذا البلد وعنفوانَه.
والمسافة المتقاربة جغرافيّاً بينهما، تضيق وتنعدم، لأنّ هاتين المؤسستين هما لكلّ لبنان ولم تتحوّلا مؤسستين فئويتين تسيطر عليهما الطائفة المارونية، على رغم أنّ مَن يتولّى قيادتهما هما مارونيّان. والدليلُ على ذلك، أنّ الجميع يشارك في اختيار رئيس الجمهورية، والجيش هو مِن كلّ لبنان ولكلّ لبنان.
مِن هنا، تؤكّد إحدى المرجعيات المهمّة، أنّ قائد الجيش العماد جان قهوجي ليس تحت راية أيّ طرف سياسي في لبنان، بل إنّ كلّ لبنان تحت رايته وراية الجيش، خصوصاً بعد الانتصارات الأخيرة التي حقّقها من عرسال إلى الشمال والجنوب، والحفاظ على الاستقرار وسط نيران المنطقة الحارقة.
وعليه، يُظهر الجيش بالوقائع أنّ هذا العام كان عامَ الاستقلال بامتياز، عبر خطواتٍ ميدانية ومعارك وانتصارات سطّرَها على الأرض وتتمثّل بالآتي:
– تنفيذه انتشاراً واسعاً في كلّ أرجاء الوطن وحفظ الاستقرار، على رغم الفراغ الحكومي والرئاسي، والنزوح السوري الضخم.
– خوضه معركة عرسال في ظروف صعبة، وانتصاره فيها، وإنهاء الجرح النازف في الشمال بعد معركة طرابلس الأخيرة.
– أثبَت مسار الأحداث بما لا يقبل الشكّ الولاءَ التامَّ لضبّاط الجيش وعناصر المؤسسة العسكرية وكشفَ كِذبَة الانشقاقات.
– القضاء على التنظيمات الإرهابية، بحربٍ استباقية، وسقوط معظمِها في قبضة مخابرات الجيش. وإنهاء مظاهر الإمارة أو الولاية، وعدم التفكير في أيّ مشروع تقسيم.
– قدرة الجيش على ضبط ساحات القتال والحدود، وخوضه معارك متنقّلة بين عرسال وطرابلس.
– تقوية الجيش بالسلاح الأميركي الذي بلغَ الذروة هذا العام.
– إظهار أخلاق قتالية عالية، حيث حمى الجيش المدنيين في مناطق القتال.
– تعزيز علاقة الجيش مع الجيوش الغربية، خصوصاً بعد زيارة قهوجي واشنطن، واستقباله وفوداً عسكرية في اليرزة من دوَل مهمّة.
كلّ هذه الاعمال ساهمَت في تثبيت الاستقلال مع بقاء بعض الملفّات عالقةً. وتؤكّد القيادة أنّ جيشَ فخر الدين الذي وقفَ في وجه الأمبراطورية العثمانية، لن تُنهكه الصراعات الداخلية. فالوضعُ السياسيّ يؤثّر، لكنّ القرار بتحييد لبنان عن نزاعات المنطقة، متّخَذ، والجيش يصونه.
وإذا كانت بعبدا برمزيتها تمثّل وجودَ الدولة وهيبتها، فإنّ قائدَ الجيش سيكون في المكان الصحيح لحمايتها عندما تهدَّد. ومَن أقسَم اليمين على الدفاع عن هذا الوطن، لن يتأخّر عن حماية الإنجازات التي هي فخرٌ لكلّ لبنان.