IMLebanon

المحلّلون العمداء نجوم الشاشات

 

 

بين التحليل العسكري والموقف السياسي… من نُصدّق؟

 

 

هم نجوم الشاشات، يزهرون في الحروب والنزاعات العسكرية. يحلّلون سير المعارك ونتائجها، يتحدثون في الإستراتيجيات الحربية القريبة والبعيدة المدى، ويغوص بعضهم في الأسباب التاريخية والجيوسياسية لكلّ شأن عسكري أو حتى سياسي واجتماعي. ضبّاط متقاعدون تفيض بهم الشاشات والأثير في زمن الحرب، يتأرجحون في كلامهم بين موقف وتحليل ويتركون الجمهور حائراً بين فهم وضياع. يتساوون في الظهور لكنهم لا يتساوون في الأهلية والثقافة العسكرية.

أكثر من 17 اسماً لعمداء متقاعدين يملأون هواء المحطات في الأزمات، بعضهم هادئ محايد يستند الى خبرة ودراسة وبعضهم مستفزّ يأخذ طرفاً ولا يجد حرجاً في التعبير عن ميوله السياسية والعقائدية. من لبنان الى فلسطين وسوريا واليمن والعراق وصولاً الى أوكرانيا وآرتساخ وأذربيجيان، لكلّ منهم كلمته وتحليله. في الأزمات جمهورهم واسع ينهل من تحليلاتهم لعلّه يفهم ما يحدث على أرض المعركة وما يمكن أن تؤول إليه الأحداث. قد يفهم وقد يتوه في تعقيدات تفوق قدرته على الفهم…

 

من الصين إلى فلسطين

 

يتّفق الجميع على أن الجنرال إلياس حنا أحد نجوم الشاشة ليس محلّلاً عسكرياً تقليدياً. هو يرفض التحليل الخطي الأحادي البعد الذي يمكن التنبّؤ به ليذهب الى الصورة الجدلية المتعدّدة الأبعاد، التي تستعيد التاريخ وتربطه بالجغرافية السياسية والواقع الحالي وتحمل بعداً ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً. موضوعي الى حد بعيد ويعتبر أن «التحليل الصحيح ليس مجرّد وجهة نظر بل يقوم على مدى إحاطة المحلّل بموضوعه وقدرته على استشراف المستقبل. فأي حدث لا يمكن أن يكون ابن ساعته بل له ظروفه وتراكماته التاريخية. التحليل يفترض أن يكون جدلياً يعطي احتمالات عدة للسؤال نفسه. المحلل ليس من يعطي رأيه ويدلي بمعلوماته مبسّطاً الأمور بل من يملك داتا معلومات متقدّمة تخوّله إعطاء نظريته حول حدث ما ومن يعرف التاريخ وتحوّلاته الكبرى ويثابر على القراءة وتثقيف ذاته، لأن هذه التراكمات الثقافية تساعده على تكوين أفكاره الخاصة. والأهم ليس ما نعرفه بل كيف نقدّم المعلومة، نربط الأمور بعضها ببعض ونبرّرها بشكل منطقي».

 

يعطي الجنرال مثالاً من الحاضر فيقول إنه لفهم «حماس» لا بدّ من العودة الى الشيخ أحمد ياسين وحياته وفكره، ثم دراسة الإخوان المسلمين وكيف كانت بدايتهم في مصر وكيف تطوّروا وصولاً الى حماس وعقيدتها. ولمعرفة أسباب حرب أوكرانيا مثلاً فلا بدّ من العودة الى 1100 عام من التاريخ الروسي ونشأته المغولية وكيف يفكر العقل الروسي. لكن المعرفة وحدها تبقى داتا فجّة غير ناضجة ينبغي تحليلها وربطها ببعضها البعض لإخراج أنماط منها تساعد على فهم الواقع.

 

نتدخل قليلاً لنلفت نظر الجنرال حنا إلى أنه يؤخذ عليه أنه يوسّع فكرته الى حدّ يضيع معه المتلقي فيبدأ بالصين مثلاً ليصل الى فلسطين فيجيب بصراحة: «إذا بسّطت الفكرة تصبح خبراً لا تحليلاً، أنا أضع الخبر ضمن إطاره الواسع وأشرح تداعياته والى أين يذهب. لا يمكن عزل المناطق عن بعضها البعض في أي إطار فحتى خلال جائحة كورونا كانت لانقطاع سلاسل التوريد بين الصين والدول الأخرى تداعيات جيوسياسية على العالم أجمع. ليست مشكلتي إن لم «يكمش» البعض الفكرة وحده، ربط الأحداث يؤدي إلى فهمها وتحليلها». «في حرب أوكرانيا، يقول حنا، كنت المحلّل المعتمد من قبل تلفزيونات عدة وهذا الاختيار لم يأتِ من عبث. فأنا درست في أبرز الجامعات وعلّمت الجيوسياسة في الجامعة ولدي برامج ومئات الساعات على الشاشات في مواضيع الإرهاب والعلوم الجيوسياسية، أربط بين المعطيات وأقولها بشكل طبيعي، لا أقبض من أحد. من ينتقدني أردّ عليه قائلاً: إذا كان لديك نقص فثقّف ذاتك، أنا أظهر لك هذا النقص والباقي عليك».

العميد أمين حطيط موضوعي في الدفاع عن المقاومة

 

العميد د. أمين حطيط سيد الشاشات في الوقت الحالي، ورغم تأييده المطلق للمقاومة الإسلامية وغزة إلّا أنه يسعى لإبقاء تحليلاته منطقية بعيدة عن التحيّز، وهذا ما يجعل كل الشاشات المحلية وحتى العالمية على اختلاف توجّهاتها تستضيفه كمرجعية عسكرية واستراتيجية، ومحطة الـ BBC استضافته ثلاث مرات منذ بدء الحرب على غزة.

 

نسأل العميد حطيط أولاً إن كان يفضّل لقب دكتور أو جنرال فيقول إن المجال الذي يحكي فيه هو الذي يحدّد الأفضلية. في الشؤون العسكرية هو جنرال وفي شؤون الحقوق هو دكتور وفي الاستراتيجيا يجمع اللقبين. عن فوضى التحليلات وفيض المحلّلين يقول: «كل ضابط يحمل خلفية عسكرية قادر على القيام بتحليلات عسكرية للمعارك، أما إذا أراد الكلام في الشؤون الاستراتيجية فلا بدّ أن تكون لديه خلفية تقوم على مسارات ثلاثة، المسار الأكاديمي بشهاداته ودوراته، المسار الوظيفي العملاني وما اكتسبه منه من خبرة عسكرية ولوجستية، وثالثاً مسار التحفيز الذاتي والاطلاع المستمرّ. من يملك هذه المسارات الثلاثة يمكن الاطمئنان إلى تحليله في المبدأ. لكن المحلل الاستراتيجي قد يذهب في منحى موضوعي وفق المعطيات ولا يهم إذا أتت نتائج التحليل لتخدم هدفه أم لا، أو منحى ذاتي يحوّر المعطيات ليخرج باستنتاجات تتوافق مع الأهداف التي يخدمها».

 

كثر من الفئة الأخيرة يظهرون على شاشاتنا، يقول العميد حطيط، وبعض من يدّعون التحليل يسخّرون عقلهم وعلمهم لمن يدفعون لهم. نسأل كيف يمكن للمشاهد أن يفرّق بين محلل موثوق وآخر يبدي رأياً ووجهة نظر؟ هل يكفي الظهور على الشاشة لإعطاء مصداقية للكلام؟

 

«من واجب المتلقّي الواعي أن يسأل ما هي الشهادات العلمية والعسكرية التي يملكها هذا المحلّل؟ ما هي الأبحاث التي كتبها وأصدرها؟ هل سبق له أن كان قائد كتيبة أو لواء أو كلية؟ حين أسمع شخصاً لم يكتب أي بحث استراتيجي كيف أثق به كيف أجعله مرجعاً مقبولاً؟

 

نحن كضباط نعرف بعضنا بعضاً، يؤكد حطيط، ونعرف من يمكن الاستماع إليه ومن لا يعرف عن موضوع كلامه شيئاً، أما المشاهد فعليه أن يسأل. ومن جهة أخرى، من تصِب تحليلاته دوماً يصبح مرجعاً موثوقاً أما من يتبيّن أن تحليلاته خاطئة فكلامه لا يمكن أن يؤخذ به. أنا وضعت كتاباً من 300 صفحة عن الاستراتيجية العسكرية وأثبت أهمية المقاومة في تحليل موضوعي وصار مرجعاً».

 

نغوص أكثر في العلوم العسكرية والاستراتيجية لنكتشف أن العلم العسكري لا يشكل سوى خُمس المواد المطلوبة لعلم الاستراتيجيا الأوسع، الذي يشمل الجغرافيا والتاريخ والعلوم الاقتصادية وعلم الإدارة العامة إضافة الى العلاقات الدولية. يشبه التحليل العسكري الجندي الواقف في ثكنته المتأهب للمعركة، فيما الاستراتيجي يشبه الواقف على جبل حيث يرى الأفق أوسع، فيما الجيوسياسي هو الجالس في طائرة والذي يرى امتداد الصورة الأشمل.

 

«رغم اتساع الصورة على المحلل الجيوسياسي أن يختار زاوية معينة ليحكي عنها وإلا تضعضع الكلام وبات من الصعب متابعته».

 

العميد جورج الصغير محلّل مستفزّ لا يوارب

 

العميد جورج الصغير شخصية جدلية مستفزة لكل من يؤيد المقاومة و»حزب الله» لكن البعض يطرب لتحليلاته وآرائه الفجة أحياناً التي لا توارب. يقولها علناً أنا ضد «حزب الله» لكنني اعترف أنه في العام 2006 أتى بالإسرائيلي الى ملعبه، عسكرياً كان هو الرابح لكنه دمّر لبنان واليوم الأمر ذاته تقوم به «حماس».

 

يعترف العميد المتقاعد أن المحلل العسكري لا يمكن أن يكون حيادياً تماماً ولا بد أن يظهر شيئاً من خلفيته السياسية وهذا ما يحدث مع غالبية المحللين على شاشاتنا، وقلائل هم المحللون الذين ليست لديهم أية خلفية سياسية ويحاولون أن يكونوا محايدين من الناحية العسكرية.

 

برأيه ليس على المحلل أن يكون عسكرياً يمكن أن يكون مدنياً على غرار رياض قهوجي لكن لديه اطلاع وقراءات عسكرية، كما لا يكفي أن يكون مقاتلاً من الدرجة الأولى وقد خاض معارك بل أن يكون لديه رأي، أي أن يملك الدراسة والثقافة التي تزوّده بالخلفية الفكرية التي تخوّله إبداء الرأي تجاه الأحداث العسكرية.

 

«المحلل العسكري الموثوق به يجب أن يكون مطلعاً على التاريخ العسكري والمعارك الكبرى ليتمكن من إعطاء تحليل عسكري لأية معركة. أما الاستراتيجية فتعني تحليل ما بعد الحرب. بعض القادة التاريخيين خلقهم الله استراتيجيين ممتازين مثل نابليون وهنيبعل وهتلر فهذا أمر يولد مع الإنسان، أما في المعارك فحقل المعركة هو الذي يعلم القائد فليس هناك من خطة صحيحة أو خاطئة والتي تنجح هي الصحيحة. ثمة معاهد تعلم الاستراتيجيا لكن يبقى فكر القائد هو الأهم».

 

نعود مع العميد الى المحللين الذين يحتلون الشاشات في الحرب لنسأله رأيه في صحة تحليلاتهم فيقول ببساطة: «فليبد كل شخص رأيه ونترك الحكم للناس فإما أن يقولوا إنه ذكي أو إنه حمار… قبل أن أطلّ على الهواء أكون متردداً بعض الشيء لكن ما إن أبدأ بالكلام حتى تتوضّح الصورة أمامي، أحاول أن أعطي رأياً وغالباً ما أكون مختلفاً عن الآخرين ليس على سبيل المفاضلة بل الاختلاف. 10% فقط ممّا يقوله المحللون أوافقهم الرأي فيه لأنني غير مقتنع بما يقولون ولا أجد فيه شيئاً ملموساً. نحن مثلاً كمحللين عسكريين مرتبطين بجذورنا والحرب الأوكرانية الروسية خارج نطاق معرفتنا، لتحليلها يجب الإطلاع على الموضوع من كل الجوانب وإلا تكون تحليلاتنا مجرّد تخمينات».

 

كلام قد لا يعجب الكثير ممن نراهم ونسمعهم على الشاشات لكن العميد الصغير مصرّ على أنه مختلف وليس أفضل «ثقافتي أوصلتني الى مرحلة أكون فيها صادقاً مع نفسي والناس فيما الآخرون ثقافتهم مختلفة وقد يؤدي ذلك الى اختلاف في وجهات النظر لا سيما حول الخطط. اليوم أقولها صراحة لن يدخلوا الى غزة، «حماس» هم أصحاب الأرض والإيمان بالقضية يخلق شجاعة وقوة، أبطال «حماس» صاروا أسطورة واستطاعوا تحريك المستنقع الراكد. الإسرائيليون لم يستطيعوا دخول بيروت في 82 لأنهم ليسوا أصحاب الأرض والأمر ذاته يحدث اليوم». لكن رغم قناعته هذه يكرّر الصغير موقفه من «حزب الله» قائلاً: «أتخمتونا بقولكم ستحررون فلسطين فماذا فعلتم؟».