تعمّد «حزب الله» في تموز 2006 فتح مواجهة عسكرية مع إسرائيل من أجل قلب الطاولة الداخلية على أثر التطورات المتلاحقة منذ صدور القرار 1559 وانتفاضة 14 آذار وانسحاب الجيش السوري وبروز أكثرية نيابية ووزارية جديدة، فأراد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
المواجهة العسكرية مع إسرائيل إذا كانت محدودة ومحسوبة تبقى كلفتها، بالنسبة إلى «حزب الله»، أقل من كلفة مواجهة عسكرية داخلية على غرار أيار 2008، لأنّ استخدام سلاحه في الداخل لا يبرّر بأي شكل من الأشكال، فيما المزايدة في مواجهة إسرائيل يستطيع بشكل أو بآخر تسويقها، والخيار هنا بين السيئ والأسوأ طبعاً في ظل حاجته إلى تحريك لوضع معيّن من أجل الخروج من الستاتيكو الذي يسير ولو ببطء ضد مصلحته.
ويُشبه الوضع السياسي اليوم إلى حد كبير الوضع في العام 2006 حيث كانت الأكثرية في الحكومة والبرلمان لمصلحة 14 آذار، والخط السياسي العام يتجه نحو مزيد من تعزيز الدولة على حساب دوره وسلاحه وحضوره، فلم يجد سوى الحرب مع إسرائيل معبراً لتغيير المعادلة، حيث ان الانقلاب على انتفاضة الاستقلال بدأ مع حرب تموز 2006 وتوِّج في حرب أيار 2008، ولكن الفارق بين الأمس واليوم ان الهدف من حربي «حزب الله» كان التخلُّص من الوضع الناشئ على أثر خروج الجيش السوري من لبنان، فيما الهدف من اي حرب محتملة ان يُخرج الحزب نفسه من مأزقه المثلّث: مأزق الانهيار المالي الذي خرج عن السيطرة المحلية، مأزق فشله في تجديد التسوية السياسية، مأزق المقاطعة الخليجية بسبب دوره وسلاحه.
وهذا في الأسباب الداخلية لأيّ حرب يمكن ان يجرّ «حزب الله» تل أبيب إليها، ولكن لا يجوز تجاهل الأسباب الخارجية أيضاً والتي تبدأ بالمفاوضات النووية وحاجة طهران إلى الرسائل الساخنة في الأمتار القليلة المتبقية على الاتفاق، ولا تنتهي بأن تكون الحرب مقدمة لتغطية الترسيم الذي قد لا يكون باستطاعة الحزب تمريره عن طريق المفاوضات وحاجته إلى حرب تقود إلى هذا الترسيم.
وقد تكون حاجة «حزب الله» للحرب مزدوجة: حاجة داخلية لإعادة تجديد التسوية السياسية عشية انتخابات نيابية ورئاسية، وحاجة خارجية تنفيذاً لأجندة إيرانية، وما بين الاثنين ترسيم الحدود كجزء من صفقة أميركية-إيرانية تسدِّد من خلالها طهران فاتورة من فواتير فيينا، ومن دون استبعاد أيضا ان يكون أحد أهداف إعادة إحياء عنوان المقاومة ضد إسرائيل التهيئة للانتخابات النيابية واستخدامه كعنوان انتخابي على غرار استخدام حليفه العهد عنوان الإصلاح من باب «قبع» حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
ومن الصعوبة بمكان حصر تحريك «حزب الله» للاحتكاك الحدودي بجانب واحد بسبب تداخل العوامل الداخلية والخارجية، ولأن كل العوامل المذكورة منطقية من قلب الطاولة داخلياً، إلى توجيه رسالة إيرانية خارجياً، وصولاً إلى إثارة الغبار من أجل الترسيم وانتهاءً بالتعبئة الانتخابية من باب المقاومة ظناً من الحزب ان هذا العنوان قادر على تجييش الناس وجعلها تتجاهل واقعها المعيشي الكارثي.
وهل يراهن «حزب الله» مثلاً على تل أبيب بأنها لا تريد الحرب فيسمح لنفسه بالمغامرة على غرار ما فعل في حرب تموز التي أرادها محدودة ومحسوبة من أجل ان يدخل على المسرح الداخلي من المسرح الحدودي وقبل ان يعود ويقرّ ويعترف بأنه لو كان يعلم بأن إسرائيل ستشنّ حرباً لما قام بعمليته العسكرية، وفي مطلق الأحوال فإنّ ما يقوم به الحزب هو لعب بـ«النار» في مرحلة دقيقة محليا وإقليميا، حيث ان الانهيار الذي وصل إليه لبنان على كل المستويات لا يحتمل حربا من اي نوع، فالمستشفيات، وهذا أبسط مثال، غير جاهزة لاستقبال الجرحى.
فما الفكرة من وراء كشف السيد حسن نصرالله بأنه يقوم بتصنيع طائرات مسيّرة في لبنان ومستعد لبيعها لمن يريد ان يشتري، وبأنه باتت لديه القدرة على تحويل آلاف الصواريخ التي يملكها إلى صواريخ دقيقة؟ وما الفكرة من وراء إعلانه قبل أشهر بأن حزبه لديه مئة ألف مقاتل؟ وألا يفترض ان تكون هذه المعلومات من طبيعة أمنية وعسكرية ومن غير المصلحة الكشف عنها؟ وهل هذه المعلومات دقيقة أساساً أم مشكوك بصحتها والهدف منها الاستعراض لا أكثر ولا أقل؟
وإذا كان الكشف عن عديد جيشه وقدراته التصنيعية للسلاح يفيده أمام بيئته ومواجهته مع إسرائيل، إلا انه يضره أمام الشعب اللبناني والمجتمعين العربي والدولي، لأن أحداً في لبنان ليس في وارد التسليم لدولة لا علاقة لها بدولته لديها جيشها وتسيطر على الأرض والحدود وتصنِّع السلاح وتقرِّر الحرب وتقطع علاقات لبنان مع الخارج، خصوصاً بعد ان أوصَل هذا الوضع البلد إلى الانهيار والكارثة، وأظهرت تجربة التعايش بين دولتين، فعلية اسمها دولة «حزب الله» وشكلية اسمها الدولة اللبنانية، انها لا يمكن ان تستمر وستصل عاجلا أم آجلا إلى ما وصلت إليه اليوم من فشل وعزلة وأزمات متداخلة وانهيار.
وإذا كان الكشف عن المئة ألف مقاتل جاء بعد غزوة «حزب الله» لعين الرمانة، فإن توقيت الكشف عن المسيرات والصواريخ غير مفهوم، والأخطر انه لم يكتفِ بالإعلان إنما لجأ إلى التنفيذ بإرساله في اليوم التالي لكلامه طائرة مسيّرة أسقطها الجيش الإسرائيلي وطائرة أخرى في اليوم الذي تبعه وقال انها تمكنت من دخول الأراضي الإسرائيلية والعودة سالمة إلى مكان انطلاقها، وهذا يعني الانتقال من الموقف إلى الترجمة العملية، ولكن من قال ان تل أبيب قد تكتفي بردود موضعية وطلعات جوية؟ ومن قال انها ليست بحاجة لحجة كي تفتعل حرباً استباقية اعتراضاً على الاتفاق النووي الذي لا تريد حصوله؟ ومن قال انها لا تعلم بأنّ «حزب الله» في أضعف لحظة سياسية منذ العام 2005 وأنها ستسفيد من اي حجة يقدمها الحزب للانقضاض عليه في توقيت غير ملائم له إطلاقاً: انهيار داخلي، انقسام سياسي، دولة فاشلة، عزلة خليجية، حليفه السوري غير موجود واستنفار عربي ودولي ضد الدور الإيراني.
ومن قال ان اللعب بالنار لا يحرق أصابع من يلهو بهذه النار، فلو لم تتدخّل دول العالم لما أوقفت إسرائيل حربها في العام 2006، وكاد ان يصدر القرار 1701 تحت الفصل السابع، وللتذكير بأنّ القرار الأخير الذي لم ينفذه «حزب الله» لا يصبّ في مصلحته كونه يرتكز على الدستور والقرار 1559. وبالتالي، من قال ان خروجه من الحرب هذه المرة سيكون مضموناً، ومن سيقف معه في الداخل واي دولة ستكون الى جانب لبنان في الخارج، خصوصاً ان الحروب هي فصل ثانوي والفصل الأساسي يتعلق بالتسويات السياسية التي لن تكون حتما لمصلحته هذه المرة؟
والأكيد في كل هذا المشهد ان لبنان دخل في مرحلة خطيرة للغاية ولم يكن ينقصه سوى العامل الإسرائيلي وكأن العوامل الأخرى أقل خطورة من ترسيم الحدود ومحاولات تطيير الانتخابات النيابية واستخدام بعض القضاء لتصفية حسابات شخصية وانتزاع مواقع سلطوية وانتخابات رئاسية مجهولة المصير مع فريق من المستبعد ان يسلِّم السلطة بسلاسة، ولكن من دون شك انّ هناك إصراراً على إدخال إسرائيل على المشهد اللبناني، والأسابيع القليلة المقبلة ستكون كفيلة بتبيان خلفيات إقحام تل أبيب وما الهدف منه وما هي حدوده وما انعكاساته على المشهد اللبناني في لحظة استحقاقات داخلية تجري بالتوازي مع تطورات دولية وإقليمية؟