قلنا مراراً وتكراراً ان المحكمة العسكرية لزوم ما لا يلزم، وواجبها الذهاب الى «محكمة التاريخ» بعدما تحولت «ضريبة سخرة» يدفعها المواطن اللبناني من حقوقه وحرياته والعدالة التي يستحق.
ما الجديد في أن تصدر هذه المحكمة أحكاماً جائرة او ملتوية أو تهماً معلّبة؟ فتاريخها يشهد على انحيازها وعلى تحكم السياسة بها، وعلى رغبتها في أن تكون سيفاً مُصلتاً في يد أهل السلطة والمنظومة المتسلّطة.
لا ضرورة لتعداد الأحكام التي أصدرتها المحكمة العسكرية ودانها أهل القانون ومنظمات حقوق الإنسان، ولا غرابة في أن تتحوّل أداة لقمع الثورة التي قامت خصوصاً ضد هذا النوع من ممارسات القضاء التي جعلت مطلب «نفض» السلطة القضائية وتكريس استقلاليتها في رأس الدعوات الى الاصلاح.
كلا. ثوّار طرابلس ليسوا إرهابيين. وتهمة الإرهاب التي ألصقت بالعشرات منهم تدين من صاغها وتوجب تحرّك التفتيش القضائي لوضع حدّ لهذا النمط من التعدي على الحريات وعلى القوانين بالذات. فبأي كتاب يتساوى متظاهر غاضب في عاصمة الشمال يؤمن بحقه في الحياة بداعشي يحمل حزاماً ناسفاً ويكفّر سائر الناس؟ وأي قانون يجعل المُطالِب بالكرامة والخبز صنواً لمحترفي الاجرام؟
تُهم «العسكرية» للمتظاهرين بـ«الإرهاب» ليست سوى ترهيب لكل من تسوّل له نفسه استئناف الاحتجاج وإحياء ثورة 17 تشرين. فالمحكمة والمنظومة على حد سواء يدركان أن عقارب الساعة يمكن أن تتوقف لكنها لن تعود الى وراء، وأن الثورة التي انطلقت لاستعادة المنهوبات ودولة القانون راجعة لأن أهدافها لم تتحقق، والدليل الساطع اتهامات «العسكرية» تحديداً، والأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة، والتهديد الوجودي للكيان ولبنان.
أسوأ ما في ردّ الفعل على اتهامات الارهاب أننا بتنا نتعامل معها باعتبارها شأناً طبيعياً وجزءاً من المشهد العام المعتاد. فسرقة اللقاح وتخصيصه للنواب وذوي الحظوة مثل سرقة الودائع. ووزير الصحة خارج المسؤولية والمحاسبة مثل حاكم مصرف لبنان. إزاحة القاضي صوان لطمس معالم الجريمة والتغطية على المرتكبين والمستفيدين تمَّت بحجة التعرض لـ«قدسية» الحصانات، ومثلها التعتيم على الاغتيالات وتقييدها ضد مجهول يُدمغان بختم «نقص الأدلة» مع إشاعة مناخات تحيلها الى «القمار والنسوان».
انها حلقة واحدة تمتدّ من سرقة طابع بريدي حتى تفجير ثلث بيروت وصولاً الى وصم طرابلس بالإرهاب وشيطنة الثوار. وهي الحلقة التي يتظهَّر فيها النزاع على حصص الحكومة وربط تأليفها بتطوّر تفاوض واشنطن مع طهران. وهي نفسها التي استقدمت البواخر وتوزعت قبلها وبعدها المناقصات والصفقات. وهي خصوصاً التي رهنت السيادة مقابل الرئاسة وحوّلت الدولة الى ساحة مستباحة. أبَعدَ كل ذلك نستغرب ان يوجه قاض تهمة الإرهاب لبعض الثوار؟
إنّها المنظومة نفسها. لا مجال لأخذها بالمفرّق لأنها أفلست فألغت التمايزات. ومطلب إلغاء المحكمة العسكرية تشبُّهاً بالدول الديموقراطية المتقدّمة سيتحقّق يوماً من ضمن السياق.