بدأت بوادر الحماوة العسكرية بالظهور في سوريا والعراق. ففي الجولة الاولى من مسيرة المفاوضات والتسويات السياسية كان لا بد أن تظهر الهوة العميقة التي تفصل بين مواقف الاطراف المتصارعة. صحيح أنّ مؤتمر المعارضة عقد في السعودية لكنّه لم ينجح في تحقيق الاهداف الفعلية المرجوّة منه.
كان لا بد من صدور قرار عن مجلس الامن لرسم السقف وتحديد بداية الطريق الواجب اعتمادها، لكنّ تشابك خيوط الصراع الدائر وتشعّب مصالح الاطراف ألزَم «التفاهم» الاميركي- الروسي الاكتفاء ببيان تغلُب عليه العموميات ما يعني التهرّب من التفاصيل.
لكن خريطة طريق التسوية موجودة داخل غرف القرار بدليل التصريح «الصادم» للرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما أشار الى أنّ بعض القرارات قد لا تعجب الرئيس السوري بشار الأسد.
وقيل إنّ بوتين كان يتحدث عن الصلاحيات التي ستنتزع من الرئيس السوري لصالح مجلس الوزراء، أكثر منه الحديث عن مدة بقاء الاسد في فترة انتقالية باتت معروفة بـ 18 شهراً.
الجميع كان يتوقع ظهور صعوبات في المرحلة الاولى من انطلاق قطار التسويات، لذلك كان الكلام عن تصعيد عسكري لا بد أن يلي هذه المرحلة بهدف تثبيت التوازن الميداني وفرضه امام المعترضين على طاولة الحوار.
وفي المعلومات أنّ النظام السوري ومعه إيران و»حزب الله» وروسيا باشروا استعداداتهم العسكرية منذ أكثر من شهر ونصف الشهر وحدّدوا ريف اللاذقية وما تبقى من ريف حمص وريف حلب الجنوبي.
ولا تبدو الاوساط الدولية معترضة ليقينها أنّ «تنظيف» ريف حمص والسيطرة على كامل ريف اللاذقية بما فيه جسر الشغور والتقدم في منطقة الريف الجنوبي لحلب إنما تصبّ في النهاية لصالح التسوية النهائية ومن خلال ترسيخ التوازن الميداني.
وفي الوقت نفسه تعزّز روسيا من قوة نفوذها ولو أدى ذلك الى ضرب القوى المحسوبة على تركيا وتشتيتها. ففي النهاية إنّ لتركيا حصة سياسية في التسوية المنتظرة ومن خلال قوات الردع الاسلامية وليس من خلال إنشاء شريط حدودي يخضع لها، لِما لذلك من تأثيرات سلبية على الحدود الجغرافية لسوريا.
والأهم أنّ تعزيز الحضور الروسي سيجعل منها صاحبة القرار الفعلي على الشاطئ السوري حيث كانت تطمح ايران لأن تضع رجلها على شاطئ البحر الابيض المتوسط. وحري عن القول إنّ الوجود الروسي سيمنع أي حضور آخر حتى لو كان حليفاً أو صديقاً. وبالتزامن وللأسباب نفسها تنطلق «عاصفة» تحرير الرمادي في العراق في الايام القليلة المقبلة.
والى جانب هذه المعارك تظهر ارتجاجات أمنية لا تقل خطورة وليست بعيدة أيضاً عن مبدأ ترتيب المسرح قبل الجولة الثانية من مفاوضات التسوية. فالخطوة العسكرية التركية في اتجاه شمال العراق رافقتها حرب فعلية في المناطق الكردية داخل الاراضي التركية والحديث عن شوارع مقفرة في ديار بكر على سبيل المثال، وعن هجومات نفذها الجيش التركي بهدف كسر ظهر الاكراد الذين استمدّوا قوة من الفورة الكردية في شمال سوريا وصولاً الى المعارك التي نفذوها ضد تنظيم «داعش».
وبدا واضحاً أنّ الصمت الدولي إنما يُخفي موافقة على قرار تركيا منع إنشاء كيان كردي مستقلّ في سوريا له امتداداته الخطيرة على الداخل التركي.
وفي اليمن، لم يظهر أنّ وقف اطلاق النار كان صارماً وشاملاً. كذلك في لبنان بَدت الساحة وكأنها جاهزة لمواكبة المرحلة العسكرية ولو أنّ الجميع يُدرك أنّ للتصعيد سقفاً لا يمكن تجاوزه.
فإسرائيل تُدرك جيداً أنها باغتيال سمير القنطار تفتح باب التوتر الامني وتدفع «حزب الله» للرد ولَو وفق درجة محدّدة. وهو ما يعني في بعض جوانبه دخولاً إسرائيلياً من الباب الامني الى غرفة التسويات وانتزاع حصة لها، وهي المدركة أنّ المرحلة التالية ستكون بفتح ملف التسوية الاسرائيلية – الفلسطينية.
ويتردّد في الكواليس الديبلوماسية أنّ وزارة الخارجية الاميركية باشرت بتجهيز ملفاتها في هذا المضمار على أن تكون البداية من خلال تنظيم حملة ضغط ضد مشاريع الاستيطان التي تنفذها الحكومة الاسرائيلية.
وفي الشمال اللبناني، تتلاحَق توقيفات الاجهزة لعناصر وخلايا تابعة لتنظيم «داعش» مع اكتشاف مخطّطات لتنفيذ عمليات ارهابية تطاول أهدافاً مدنية وأخرى عسكرية.
باختصار، الصورة الطاغية تبدو في مرحلة ما بعد انطلاق قطار التسويات أمنية وعسكرية، وتَجمع ما بين فرض التوازنات الميدانية وما بين رسائل الاعتراض لحجز حصة قبل أن تنطلق المرحلة التفاوضية الثانية.