رفعت إسرائيل سقف عمليتها العسكرية في قطاع غزة بمجرد أن حدّدت هدفاً رئيسياً هو تصفية حركة «حماس» وباقي مجموعات المقاومة الفلسطينية، ما يعني أن خروج مقاوم واحد من المعركة على قيد الحياة يعني أن الخطة الإسرائيلية باءت بالفشل، فكيف إذا كان الميدان حافلاً بالمفاجآت؟
أولاً؛ وقائع «طوفان الأقصى»: في ٧ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٣ اقتحمت قوة من حركة «حماس» (نحو ١٢٠٠ مقاتل) أهم خط دفاعي في التاريخ من الناحية التكنولوجية يفصل قطاع غزة المحاصر عن «الغلاف» في الجنوب الغربي من فلسطين المحتلة، وهو عبارة عن جدار بطول نحو ٦٠ كلم وبعمق ٩ أمتار تحت الأرض و٩ أمتار فوق الأرض منعاً للأنفاق أو التسلق، كما تم تجهيزه بأحدث الكاميرات وأجهزة الرادار والتحسس (sensors)، بالإضافة إلى أبراج مراقبة تعمل على مدار الساعة. بعد إحداث ثغرات في «الجدار»، تقدم مقاتلو «حماس» نحو ما تسمّى «مستوطنات الغلاف» تحت وابل من نيران الصواريخ ما أرغم العسكريين والمستوطنين على النزول إلى الملاجئ كعادتهم منذ أكثر من سنتين حيث ينزلون إلى حين انتهاء القصف ثم يعودون إلى أوضاعهم الإعتيادية. وقع العسكريون والمستوطنون في الفخ وباتوا في مواجهة نيران مقاتلي «حماس» فقتل منهم نحو ١٥٠٠ وجرح نحو ٢٨٠٠ ووقع في الأسر نحو ٢٥٠ ولا يزال نحو ٢٠٠ في عداد المفقودين. هكذا.. وخلال ثلاث ساعات انهار الجيش الإسرائيلي ومنظومة الأمن الإسرائيلية وانكشف الهوان والضعف وارتبكت القيادة السياسية. أثار «طوفان الأقصى» قلق الإدارة الأميركية فتحركت لإنقاذ إسرائيل سياسياً عبر وزير الخارجية انتوني بلينكن الذي هدّأ من روع القيادات الإسرائيلية وحضر اجتماعا للمجلس الحربي الذي شكّله رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وتبعه وزير الدفاع لويد اوستن الذي استبق وصول أحدث حاملة طائرات أميركية «جيرالد فورد» ومجموعة عمل مرافقة لها على ساحل شرق البحر الأبيض المتوسط. وتبعتها حاملة الطائرات «دوايت أيزنهاور» وتوّجت الولايات المتحدة تدخّلها بزيارة رئيسها جو بايدن إلى إسرائيل حيث تعهد للقيادة الإسرائيلية بتقديم جميع أنواع الدعم.. وسبق وصوله هبوط خمس طائرات تحمل ذخائر وصواريخ متنوعة. فور حدوث هذا الإنهيار الإسرائيلي، أعلنت القيادة الإسرائيلية عن استدعاء ٣٦٠ ألفاً من جنود الإحتياط لينضموا إلى الـ١٧٠ ألفاً من عسكريي الخدمة الفعلية في مواجهة تداعيات هجمة «حماس» غير المسبوقة. ثانياً؛ القصف الجوي.. بداية المسار العسكري:
أ- انهيار القيادة: مع انهيار منظومة القيادة خصوصاً في المنطقة الجنوبية، بادرت القيادة الإسرائيلية إلى شن حملة قصف جوي واسعة النطاق على قطاع غزة طاولت أبنية سكنية ومستشفيات وأبرزها المستشفى الأهلي المعمداني ومساجد وكنيسة غزة الأرثوذكسية وقوافل المدنيين النازحين وقتلت أكثر من أربعة آلاف بينهم غالبية من الأطفال والنساء وما تزال أعمال القصف الجوي مستمرة، حيث قارب عدد الشهداء الخمسة آلاف بينهم نحو ألفي طفل، فضلاً عن سقوط نحو خمسة عشر ألف جريح حتى الآن. وقد ردّت قيادة المقاومة بقصف مستوطنات «الغلاف» وعسقلان وبلغت صواريخها تل أبيب والقدس وأعلنت جهوزيتها لمواجهة أي توغل بري.
ب- نشوء مسار سياسي خطير: ما لبث القصف الجوي أن خلق مساراً سياسياً، هو تهجير أهالي غزة نحو سيناء في مصر، الأمر الذي أثار مخاوف القيادتين المصرية والأردنية وغضب القيادة السعودية التي غيّرت خطابها السياسي إلى الحديث عن قوات الإحتلال الإسرائيلية ورفض تهجير الفلسطينيين بعدما كانت تقترب من التطبيع مع تل أبيب قبل ٧ تشرين الأول/أكتوبر.
ج- احتمالات الهجوم البري: قطاع غزة هو شريط ساحلي يمتد على طول نحو ٤١ كلم وبعرض يتراوح بين ٥ و١٥ كلم مما يدفع الإسرائيليين الى التخطيط لاختراق القطاع وتقسيمه إلى عدة أقسام، حسب النجاحات التي تحققها في الخرق البري. ويبدو من إصرار إسرائيل على إفراغ شمال قطاع غزة من السكان المدنيين أن محور الجهد للتقدم والخرق المحتملين سيكون من الشمال باتجاه الجنوب (اي حتى حدود وادي غزة). وتدرك القيادة العسكرية الإسرائيلية أن أنفاق المقاومة تحت الأرض قد تخفي مفاجآت، ولهذا تريد أن تخلي السكان كي تتمكن من خرق القطاع بسهولة وبالتالي تُحقّق نصراً معنوياً.
د- عملية جيمس بوندية: حضرت على متن مجموعة العمل البحرية الأميركية قوة من القوات الخاصة الأميركية (دلتا) وتسرّبت أنباء عن احتمال اشتراكها بعملية تسلل أو إنزال تستهدف مهاجمة أماكن احتجاز الرهائن في غزة وتحريرهم. ووُزعت صور للرئيس جو بايدن وهو يلتقي أعضاء من مجموعة (دلتا). كما تسرّبت أنباء عن اتخاذ قرار بشن هذه العملية في اليوم التاسع بعد الأسر قبل أن يتم الغاءها. كانت تجربة الولايات المتحدة في إيران عام ١٩٨٠ في محاولة إنقاذ الرهائن فاشلة بسبب تأييد الرئيس جيمي كارتر مقترح زبيغنيو بريجينسكي مستشار الأمن القومي ومنظر السياسة الأميركية ومعارضة وزير الخارجية سايروس فانس الذي استقال من منصبه احتجاجاً. ولا تزال النهاية المأساوية لهذه العملية، التي أعلن في نهايتها عن مقتل ٦ جنود أميركيين ماثلة في ذاكرة العسكريين الأميركيين. وستكون نتيجة الفشل هذه المرة مدوية في كل من إسرائيل والولايات المتحدة.
هـ- الخوف من فتح جبهات جديدة: يتخوّف الإسرائيليون من فتح جبهة الشمال مع حزب الله في لبنان ويظهر تخوفهم من ردود الفعل المحدودة على هجمات حزب الله على المواقع الإسرائيلية المقابلة للحدود اللبنانية وتدمير بنية الاستطلاع والتجسس الإلكتروني بالإضافة إلى التسلل ونصب كمائن لدوريات وآليات إسرائيلية. تم تسريب معلومات من واشنطن بأن الولايات المتحدة نصحت إسرائيل بعدم فتح جبهة الشمال.. ويبدو أنها سمعت هذه النصائح والتزمت بها حتى انجلاء الصورة في غزة. كما تسرّبت أنباء عن توجيه ضربة «استباقية» لحزب الله لكن سرعان ما تم التراجع عنها (الضربة الاستباقية لا تنطبق على وضع حزب الله بل على الجيوش النظامية). ولهذه الغاية، فإن إسرائيل التي شنّت حرب عام ٢٠٠٦ بسبب خطف ثلاثة جنود تكتفي اليوم بالرد على مصادر النيران. أدّى تصعيد حزب الله القتال على طول الجبهة من الناقورة إلى مزارع شبعا، أي بمسافة نحو ١٠٠ كلم إلى حشد إسرائيل ثلاث فرق عسكرية في الشمال كان من المخطط لها أن تساند الهجوم المنتظر على غزة. يمتد الخوف إلى الولايات المتحدة التي تعرضت قواعدها العسكرية في العراق لقصف صاروخي وبالمسيرات: قاعدة عين الأسد في الغرب وقاعدة مطار بغداد وقاعدة في الشمال قرب أربيل. أما في سوريا، فقد تعرضت قاعدة التنف في الجنوب ومنشات الغاز كونيكو في الشرق إلى هجمات صاروخية . وأثار اعتراض فرقاطة أميركية لثلاثة صواريخ «كروز» وعدة مسيّرات في شمال البحر الأحمر قلق إسرائيل التي اعتبرت أن الصواريخ كانت تتجه إليها، كما أثارت هذه الحادثة القلق من احتمال إغلاق باب المندب أمام حركة السفن التجارية وتأثير ذلك على الإقتصاد العالمي وأسعار النفط والغاز.
ثالثاً؛ الأعمال المحتملة:
أ- شن عملية برية على قطاع غزة:
في حال نجاح إسرائيل في إحداث خرق على محور أو أكثر من شرق القطاع إلى غربه نحو البحر، فإنها ستقطع أوصال غزة وإذا تمكنت من تدمير منظومة القيادة والسيطرة في «حماس»، فإنها ستسيطر على القطاع. عندما تبدو ملامح هذا الاحتمال واضحة يمكن أن يلجأ حلفاء «حماس» إلى تصعيد الموقف عسكرياً في جنوب لبنان والجولان وربما في الضفة الغربية.. وعندها تدخل المنطقة بكاملها في نزاع عسكري تشارك فيه اليمن والعراق وإذا طال أمد النزاع تُشارك إيران أيضاً، ما يؤدي إلى توسيع مسرح العمليات، الأمر الذي تخشى منه الولايات المتحدة وخصوصا لجهة تداعياته على أسعار النفط وعلى التجارة العالمية وأمنها ومصالحها في المنطقة. وسيتوقف على نتيجة هذه المواجهة إقامة ترتيبات جديدة في المنطقة قد تشبه بأهميتها ترتيبات ما بعد كل من الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية. وفي حال فشل الهجوم الإسرائيلي البري ستُصاب إسرائيل بضربة أقسى من ضربة ٧ تشرين الأول/أكتوبر وسنشهد عندها تغييرات في القيادة السياسية والعسكرية ومباشرة عقول إسرائيل وصهيونية عالمية باستنباط إستراتيجية جديدة مختلفة عن الإستراتيجية الراهنة.
ب- البقاء في حال المراوحة: عدم شن هجوم بري لأسباب مختلفة أبرزها عدم الجهوزية وعدم صدور القرار السياسي واستجابة للتحذيرات الجدية من اصابة المدنيين. يؤدي ذلك إلى تغيير في المواقف العربية والإسلامية ضد إسرائيل واندفاع روسي وصيني مشترك في المجتمع الدولي وتشكيل رأي عام ضاغط على إسرائيل.
ج- مسار تسوية طويل: بدأ مسار التسوية بالمسار الانساني بشكل خجول وتمثل في إطلاق «حماس» سراح إمرأة وابنتها تحملان الجنسية الأميركية بوساطة قطرية مقابل ادخال ٢٠ شاحنة إغاثة إلى غزة. قد يستمر هذا المسار ببطء ويشمل إطلاق مزيد من الأسرى من حملة جنسيات أجنبية مقابل دخول مواد الإغاثة ووقف إطلاق نار ولو كان غير معلن، ثم يستمر باطلاق سراح المدنيين الإسرائيليين وينتهي بمفاوضات تسوية تشمل الأسرى العسكريين. الولايات المتحدة وإسرائيل هما من يختاران أي مسار يريدانه.
* عميد ركن متقاعد