لم يتسع «زمن التشرينين» لموعد جديد يوحي بالتفاؤل بالنسبة إلى اللبنانيين، بعدما سقطت إحدى المحاولات ما بين الأول والثاني منهما من أجل وقف لإطلاق النار في الجنوب. ولذلك قيل انّهم عاشوا ومعهم الموفد الرئاسي الاميركي عاموس هوكشتاين «حلم ليلة صيف»، فناموا على أمل بنهاية «النكبة» واستفاقوا على عكسها. وبعدما خاب الظن بعودته إن اصطحب معه نظيره بريت ماكغورك او وحيداً، توغلوا في نسج السيناريوهات التي تحاكي ما حصل، وهذه عينة منها.
تعتقد مراجع ديبلوماسية وسياسية مطلعة انّه لم يكن منطقياً أن ينتظر اللبنانيون تحوّلاً مهمّاً في مجرى العمليات العسكرية التي ما زالت تفتك بأرواحهم وممتلكاتهم على أي خلفية محتملة مهما تعددت الخيارات المؤدية إلى ذلك. فالحديث عن إمكان التوصل إلى ما تسمّيه إسرائيل «التسوية المقترحة التي تقضي بإبعاد قوات «حزب الله» إلى ما وراء الليطاني» كما قالت وسائل إعلام اسرائيلية، رفع رئيس حكومتها من سقف مطالبه إلى ما لا يتحمّله أحد، على رغم من وعد الولايات المتحدة الاميركية بتقديم الضمانات الكافية لها بـ «حرّية العمل العسكري في لبنان»، إن لم تتثبت ومعها قوات «اليونيفيل» من التزام لبنان بالتعهدات التي قُطعت من أجل تنفيذ القرار 1701 بكل مندرجاته وفق الآلية التنفيذية التي تكفل استكمال ما لم يتحقق منه منذ صدوره في 11 آب 2006 وحتى اندلاع حرب «الإلهاء والإسناد» في 8 تشرين الأول الماضي.
وعليه، بقي على هذه المراجع أن تبحث عن أي أمل في التوصل الى تفاهم قبل فتح صناديق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية الاميركية يوم «الثلاثاء الكبير» المقبل، على رغم من اعتقادها شبه الثابت والأكيد انّ البحث عن «إبرة في كومة قش» قد يكون أسهل من هذه الأمنية، وخصوصاً إن تعمّقوا في مراقبة المواقف التي رافقت زيارة هوكشتاين وماكغورك لتل ابيب ولقائهما برئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، وربما التقيا بمسؤولين آخرين، على وقع سيل من المواقف التي تنتقد الادارة الاميركية الحالية، وصولاً الى إعراب وزير الأمن المتشدّد ايتمار بن غفير عن امله بفوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب في الانتخابات المقبلة، ليقدّم أولى الدلائل على استبعاد ان تهدي حكومته أي هدية للديموقراطيين قبل ايام على المواجهة الكبرى بينهما، وخصوصاً انّ الاميركيين مفروزون تقريباً بميزان الجوهرجي في آخر استطلاعات الرأي التي صدرت في الأيام القليلة الماضية، قبل دخول البلاد مرحلة الصمت الانتخابي.
على هذه الخلفيات توسعت السيناريوهات التي تحاكي مصير «الهدنة المفقودة»، وهي تتوزع بين ما تبين من انقسام لبناني داخلي بين أهم طرفين في المواجهة، مقابل التصعيد الإسرائيلي اللامتناهي والذي يتوافر له ما يذكيه ساعة بعد ساعة. وهذه عينة على مستوى المشهدين اللبناني والاسرائيلي:
– على المستوى اللبناني، تبين بما لا يرقى إليه شك عند إجراء المقارنة المبسطة لما جاء على لسان الأمين العام الجديد لحزب الله الشيخ نعيم قاسم ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي بفارق ساعات قليلة قبل يومين، بما يوحي بأنّ الحزب ما زال يمنن النفس بانقلاب في الصورة العسكرية، بحثاً عن انتصار ما في الميدان في إطار المواجهة المفتوحة مع الجيش الإسرائيلي. وهو يعتقد انّه لن يكون هناك أي تفاهم بما لا يضمن انتصار المقاومة. فيما عبّر ميقاتي بصراحة ووضوح لا يرقى اليه شك، بأنّ لبنان ملتزم بتطبيق القرار 1701 بما يؤول إلى وقف للنار وحظر أي سلاح غير شرعي ضمن منطقة «اليونيفيل» بما فيه السلاح المستخدم في الحرب الحالية، وهو أمر يستحيل النقاش فيه مع إيران و»حزب الله». ففي وقت لا يمكن لإسرائيل او الوسيط الاميركي ان يبحث بأي خطوة ما لم تنتصر فيه نظرية الحكومة مدعومة بموقف لرئيس مجلس النواب نبيه بري. فكيف إن صحت النظرية التي قالت إنّ قاسم سحب في خطابه التكليف المعطى لبري، وهو ما يهدّد بانقسام داخلي يعزز الموقفين الأميركي والاسرائيلي ومعهما المجتمع الدولي.
– لا تختلف الأمور على مستوى المشهد الاسرائيلي وما فيه من تعقيدات حالت دون التفاهم على وقف للنار او اي خطوة تقود اليه. ذلك أن ليس سراً انّ نتنياهو ومعه مجموعة وزرائه المتشدّدين لا يأمنون الجانب اللبناني لجهة سحب الأسلحة من منطقة «اليونيفيل»، عدا عن رفضهم المطلق لإعطاء بايدن اي خطوة تعزز حظوظ الديموقراطيين للبقاء في البيت الأبيض. ومن راقب الأداء الإسرائيلي عشية الزيارة التي قام بها هوكشتاين وماكغورك، يجب أن يدرك نيتها في إنهاء الزيارة قبل حصولها أو تعطيل مفاعيلها على الأقل. وهي تجلّت بتسريب ما سُمّي «صيغة تفاهم للحل السياسي في الشمال» ظهر أنّها ملغومة بعدد من نقاطها الثماني، أقل ما يُقال فيها انّ بعضاً منها يتحدّى الجانب اللبناني ويضع عقبات مسبقة امام الوسيطين اللذين كانا قد صعدا سلّم الطائرة من واشنطن عندما طلبا نفي مضمونها مخافة تشويه الصورة قبل وصول موفديها إلى تل ابيب، وهو ما تبين في جانب منه عندما أبلغ هوكشتاين إلى ميقاتي في اتصال هاتفي تلقّاه وهو على سلّم الطائرة انّه يأمل في ان تكون النتائج هذه المرّة أفضل من سابقاتها، من دون ان يعطي اي ضمان.
عند هذه المؤشرات تنتهي المراجع الديبلوماسية والسياسية إلى التأكيد انّ أوان الحل لم يأتِ بعد، وانّ الشعور بأن تشكّل محطة الانتخابات الاميركية محطة فاصلة، مشكوك في أهميتها وصحتها. وطالما انّ من الخطأ الرهان عليها، يُخشى من أن لا يستطيع لبنان إقناع أحد من الوسطاء بموقفه، إن لم يتمكن الثنائي بري وميقاتي من توفير المخرج الذي يوائم بين موقف الحزب ومن خلفه إيران، المضي في الحرب والرهان على الميدان الذي لم يأت بعد سوى بـ «النكبات» وبالتدمير شبه الكامل لأحياء في الضاحية الجنوبية وفي عشرات القرى الجنوبية والبقاعية، بحيث يستحيل العودة إلى بعضها والعيش فيها إلى مرحلة طويلة تلي وقف النار.
والأخطر من كل ذلك، ان تُظهر الأيام المقبلة حجم النية الاسرائيلية بتدمير مناطق واسعة من لبنان. فحصر المطالب المعلنة بـ «عودة نازحي الشمال» لم يعد ذا أهمية. فمن أراد ذلك كان يمكن أن يحققه من قبل، وإن كان الهدف التخلص من سلاح «حزب الله» فالمشوار طويل وبعيد، وهو هدف لا يتحقق سوى إن قرّرت ايران إستعادة أسلحتها.