رسالة صاروخيّة من عرمتى إلى العيشيّة
ليست المرّة الأولى التي يستعرض فيها “حزب الله” قوته العسكرية والأمنية، إلّا أنّها المرّة الأولى التي يحوِّل هذا الإستعراض إلى مشهدية كاملة أمام الإعلام المحلي والدولي من دون محاذير، من أجل إيصال رسالة إلى من يهمّه الأمر في لبنان وفي خارجه. ما حصل في عرمتى الأحد 21 أيار الحالي أكمله أمين عام “الحزب” السيّد حسن نصرالله في 25 منه متحدّثاً عن تهديد إسرائيل وعن مئات آلاف المقاتلين.
عام 1994 عندما كان يُتّخذ القرار بحلّ حزب «القوات اللبنانية» بعد جريمة تفجير كنيسة سيدة النجاة في زوق مكايل، وقبل أن تكون هناك تحقيقات عدلية ومحاكمة، كان «حزب الله» يحتفل في بعلبك بيوم القدس وينظّم استعراضاً عسكرياً. لم تكن السلطة التي قامت في عهد الوصاية بعد العام 1990 تأبه للربط بين الحدثين، ولم يكن يهمّها الكلام عن صيف وشتاء فوق سقف واحد. كان القرار قد اتُّخذ بالقضاء على «القوات اللبنانية» وبإطلاق آلية عمل «حزب الله». منذ ذلك التاريخ كان مشهد الصراع في لبنان يكاد ينحصر بين مشروعين: مشروع تحمله «القوات اللبنانية» ومشروع يحمله «حزب الله». مشروع استعادة الدولة وشرعية السلطة صاحبة القرار، ومشروع بناء سلطة تلغي الدولة والشرعية وتتولى هي القرار.
من السريّة إلى العلنيّة
من المفترض أنّ «حزب الله» يعتمد السرية في حركته السياسية والعسكرية والأمنية. ولكن خروجه إلى العلنية بهذه الطريقة الإستعراضية يعني أنّه كان يريد أن يستخدم المشهد في توجيه رسائل كثيرة. وهذا يعني إما أنّه في مأزق كبير اضطرّه إلى هذا الخيار، إما أنّه يعتقد أنه في وضع مريح جدّاً بحيث أنّه لا يتوانى عن إظهار ما يعتبر أنّه أحد أبرز عناصر قوته لتخويف وإرعاب من يريد إرعابه وتخويفه. استعراض بعلبك 1994 لم يكن الأول ولا كان الأخير. في كل عام تقريباً يستعرض قوته ولكن الفارق هذا العام أنّه استعرض بالسلاح الثقيل والخفيف.
عام 2016 مثلاً اختار أن يكون استعراضه في مدينة القصير في سوريا التي احتلّها عام 2013 بعد انخراطه في الحرب السورية. ذلك الإستعراض كان توقيته مريباً إذ إنّه تزامن مع انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، ومع يوم العرض العسكري الذي نفّذه الجيش اللبناني في عيد الإستقلال الوطني بعدما كان هذا الإحتفال غاب منذ العام 2014 بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان. يومها جاء من يخبر الرئيس عون بأن هذا العرض ملتبس بتوقيته مع ابتداء ولايته، ولكنّه لم يرغب في أن يعلّق على الموضوع ليظهر بعد ذلك أنّه لم يكن لا راغباً ولا قادراً على المناورة، وبأنّه كان يعتبر ضمناً أنّ سلاح «حزب الله» هو أحد أسلحة العهد. ولذلك اعتبر دائماً أنّ هذا السلاح ضروري لأنّ الجيش اللبناني غير قادر على حماية لبنان.
حروب أربعين عاماً
خلال أربعين عاماً استطاع «حزب الله» أن يبني ترسانة عسكرية وأن يخوض حروباً كثيرة بمساعدة إيران والنظام السوري. عندما بدأ كتنظيم صغير عام 1982، بعد الإجتياح الإسرائيلي للبنان وبعد وصول طلائع الحرس الثوري الإيراني إلى البقاع، لم يكن لديه أي قوة ينطلق منها. لذلك بدأ يقضم من حركة «أمل». حتى أمينه العام السيد حسن نصرالله كان مسؤولاً تنظيمياً في الحركة ولكن الذين انفصلوا عنها كانوا أعلى منه رتبة في العمل الحركي وصاروا لاحقاً تحت إمرته. كانت مهمة «الحزب» الأولى أن يسيطر على الطائفة الشيعية أولاً، وكان عليه أن يتجاوز حركة «أمل» برئاسة نبيه بري الذي لم يقف متفرجاً على الثورة الإسلامية في إيران كيف تلتهم تنظيمه الذي أسسه الإمام موسى الصدر، الذي لفّ اختفاءه لغز كبير عام 1978 مع اقتراب الثورة الإسلامية في إيران من الوصول إلى السلطة.
استهلكت الحركة قدراتها في حروبها الداخلية بعد العام 1982 ووقف «الحزب» يتفرّج عليها. من حرب الشوارع ضد تنظيم «المرابطون» السني، ومع الحزب «التقدمي الإشتراكي» الدرزي والحزب «الشيوعي»، انتقلت إلى حرب طويلة ضد المخيمات الفلسطينية من بيروت إلى صيدا وصور، حيث استفاد «الحزب» من هذه الحرب ليفصل بين الحركة والفلسطينيين، قبل أن يبدأ حربه ضد «أمل» في الجنوب ويستكملها في الضاحية الجنوبية. تلك الحرب انتهت عام 1990 بتسوية سورية إيرانية حصرت السلاح والعمل العسكري بيد «حزب الله»، وأعطت رئيس الحركة نبيه بري سلطة القرار داخل السلطة الرسمية. ومن هذا الباب دخل إلى رئاسة مجلس النواب واحتل الموقع الذي لم يزاحمه عليه أحد.
هذا الدور الذي أعطي لـ»الحزب» كان يجب أن يكتمل بحصر أعمال «المقاومة» ضد إسرائيل به. لذلك أنهى النظام السوري دور كل من الحزب «الشيوعي» والحزب «السوري القومي الإجتماعي» وما عرف وقتها بـ»جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية».
قبل العام 2000 وبعده
لم يقتصر الأمر على المستوى العسكري فقط بل على المستوى الأمني أيضاً. قبل العام 2000 استطاع «الحزب» أن يوجه ضربات موجعة ضد القوات الإسرائيلية وجيش لبنان الجنوبي في الشريط الحدودي الذي امتد من جزين حتى الناقورة. استهدف مواقع عسكرية محصّنة واعتمد الحرب النفسية في تصوير العمليات التي ينفذها، وخاض حرب تموز 1993، ثم حرب نيسان 1996، التي انتهت بما سُمي تفاهم نيسان ووقف لإطلاق النار. من الناحية العسكرية كان بإمكان الجيش الإسرائيلي مع جيش لبنان الجنوبي البقاء في الشريط الحدودي وقتاً أطول. ولكن قرار الإنسحاب الإسرائيلي في 25 أيار 2000 كان سياسياً بالدرجة الأولى مع المعرفة المسبقة بارتداداته اللاحقة، وبأنّه سيؤدي إلى ازدياد قوة «حزب الله». ولكن كان الإنسحاب مقدمة لتهدئة الوضع على جبهة إسرائيل الشمالية، فعلى رغم تمركز «الحزب» على الحدود لم تحصل عمليات مواجهة حتى 12 تموز 2006.
تلك الحرب كانت تجربة قاسية لـ»الحزب». بدا وكأنّ إسرائيل كانت تنتظر حصولها وكأنّه كان هناك أمر عمليات دولي رافقها وانتهت معه بإصدار مجلس الأمن الدولي القرار 1701 الذي يطلب بسط سلطة الدولة على كامل أراضيها، وجعل منطقة جنوب الليطاني خالية نظرياً من سلاح «حزب الله» وعزّز القوات الدولية وقوات الجيش اللبناني فيها. بين العام 2000 والعام 2006 استطاع «حزب الله» أن يطوّر ترسانته العسكرية بامتلاك أعداد كبيرة من الصواريخ وبفتح خطوط دعم لحركتي «حماس» و»الجهاد الإسلامي» في قطاع غزة. ولكنّه كما ظهر في حرب تموز كان يعتمد استراتيجية المواقع السرية والمخابئ التي يطلق منها الصواريخ. وظهر خلال شهر من الحرب، أنّه كاد يستنفد قدرته العسكرية، واحتاج إلى عمليات إمداد فورية من إيران عبر دمشق، الأمر الذي جعل إسرائيل تستهدف الجسور اللبنانية في أكثر من منطقة. ولذلك كان «الحزب» يحتاج إلى غطاء حكومة الرئيس فؤاد السنيورة لوقف النار. تلك الحكومة التي قال عنها الرئيس بري إنها حكومة مقاومة اتهمها «حزب الله» بأنّها حكومة من العملاء الذين غطّوا الحرب عليه.
حرب سوريا وتغيير التكتيك
خمسة أعوام فقط فصلت بين تلك الحرب وبين انخراط «الحزب» في الحرب السورية. هذه الحرب جعلت «الحزب» يعتمد استراتيجية عسكرية جديدة من خلال اضطراره إلى تجنيد الآلاف من الشيعة فيها، وإلى خوض معارك برية في مناطق كثيرة، من القلمون على الحدود مع لبنان إلى حمص وحلب ومحيط دمشق. هذه المعارك أظهرت أنّ «الحزب» امتلك قدرات جديدة تقوم على بعض الآليات العسكرية والمدافع والصواريخ وعلى العنصر الفردي. ولكن التجارب بيّنت أنّ قدرات «الحزب» هذه بقيت على مستوى منخفض من التجهيز، ولم ترتقِ إلى مستوى عسكري منظّم ومحترف وفاعل، وقد أدى ذلك إلى تكبّده خسائر بشرية كبيرة في معارك كثيرة.
تحوُّل تركيز «الحزب» على الحرب السورية لم يمنعه من استكمال بناء قوة صاروخية قال إنّه طوّرها ليجعلها صواريخ ذكية بالإضافة إلى إدخال المسيّرات في المواجهة. ولكن منذ العام 2006 بقي «الحزب» مع إسرائيل ملتزمين بما سمياه قواعد الإشتباك. حاول «الحزب» أن ينقل عملياته إلى سوريا ولكنّه بقي مسهتدَفاً باستمرار من الجيش الإسرائيلي.
إسرائيل تعرف و»الحزب» يعرف
ما ظهر من أسلحة ومن استعراضات بشرية في عرمتى لا يخيف إسرائيل. «الحزب» يعرف أنّ إسرائيل تعرف بشكل دقيق ما يمتلكه من قدرات صاروخية وبشرية. وهي من خلال الممارسة تكشف عن قدراتها الإستخبارية من خلال عمليات القصف التي تنفّذها في سوريا وتستهدف شحنات عسكرية لصالح «الحزب». وهي تعرف معلومات من داخل إيران مكّنتها من القيام بعمليات في داخلها تستهدف برنامجها النووي، سواء من خلال اغتيال علماء يعملون فيه، أو من خلال نقل كميات كبيرة من وثائق المشروع. وعلى رغم ذلك لم تتمكّن إيران من الحدّ من قدرات إسرائيل الإستخبارية.
ما حصل في عرمتى يكشف قدرات متواضعة لـ»الحزب» وتقنيات بدائية لا ترقى إلى مستوى التهديد الذي أطلقه أمين عام «الحزب» السيد حسن نصرالله ضد إسرائيل. في حرب 7 أيار 2008 ضد بيروت والجبل استخدم مئات من عناصره مع أسلحة وصواريخ وآليات بمشاركة حركة «أمل» وتنظيمات أخرى موالية له. بعد غزوة الطيونة في 14 تشرين الأول 2021 هدّد «القوات اللبنانية» ورئيسها سمير جعجع بمئة ألف مقاتل. في 25 أيار الحالي هدّد إسرائيل بمئات آلاف المقاتلين.
طبعاً لم تنتظر إسرائيل استعراض «الحزب» لتكتشف القدرات المتواضعة التي أظهرها. لا يمكن شنّ حرب لتحرير فلسطين بواسطة الموتوسيكلات، أو سيارات الدفع الرباعي أو بالـATV، أو براجمات الصواريخ التي صادر أهالي شويّا إحداها بعد عملية قصف قامت بها من خراج البلدة. ولا يمكن تحرير فلسطين بصواريخ يحملها أفراد على أكتافهم وكأنهم في عرض رياضي. ولا من خلال رشاشات كلاشنيكوف تجاوزها الزمن، ولا من خلال تقنيات لكشف طائرات الدروِنز والتشويش عليها. ولا من خلال مدفع ميدان من عيار 130 ملم. فعلى من كان يناور «الحزب» في مناورته المكشوفة؟
استعراض «حزب الله» في عرمتى يكشف أن «الحزب» لم يعد يتمسّك باستراتيجية العمل تحت الأرض، لأن ما يمتلكه من قدرات لم يعد سرّاً. ولذلك لا يمكن أن تكون الرسالة التي أراد توجيهها موجّهة إلى إسرائيل. فالوضع عند الحدود مضبوط تحت اتفاق قواعد الإشتباك واتفاق ترسيم الحدود البحرية والمصالح الإقتصادية بين لبنان وإسرائيل. والرسالة موجهة إلى الداخل حيث يعجز «حزب الله» عن فرض مرشحه الرئاسي وعن القيام بعملية عسكرية ضد عدو غير موجود اليوم كما فعل في 7 أيار 2008. كأنّه يخوض مواجهة ضد عدو وهمي يعتبر أنّه يمكن أن يستمرّ في معارضته وعرقلة مشروعه. وهو في عرمتى لا يبعد عن مسقط رأس قائد الجيش العماد جوزاف عون في بلدة العيشيّة إلا مسافة قليلة. كأنها رسالة صاروخية أراد إرسالها وهو يعرف أنها ستصل إلى من يريد من دون أن تكون هناك قدرة على الردّ عليها لأن السلطة السياسية غائبة ولأنه لا يمكن استدراج الجيش إلى مواجهة لا يريدها.