كلام في السياسة |
على عكس الصورة المتفائلة نسبياً حيال الوضع الأمني العام في لبنان، وعلى عكس كل الكلام العلني والإعلامي، يؤكد مسؤولون معنيون أن الواقع ليس كذلك في أزمة العسكريين اللبنانيين المحتجزين لدى مسلحي «داعش» و»النصرة» منذ 2 آب الماضي.
يشرح هؤلاء أن القوى المسلحة اللبنانية تمكنت خلال الأشهر الماضية، وتحديداً منذ معركة عرسال، من صد كل محاولات الاختراق التي حاول الإرهابيون القيام بها.
وفي المقابل كانت السلطات الأمنية اللبنانية تتابع، في شكل متزامن، رصد تلك المجموعات الإرهابية كما التفاوض غير المباشر معها، من أجل التوصل إلى حل يؤدي إلى إطلاق العسكريين المحتجزين. ويجزم المسؤولون أنفسهم بأن القوى الأمنية حققت أكثر من ضربة في صراعها مع تلك المجموعات. فألقت القبض على عدد من مسؤوليها، وأحبطت مخططات إرهابية عدة كانت تحضر لها، وإن لم تكن تلك النجاحات كلها قد خرجت إلى الإعلام، وذلك لأسباب فرضتها ظروف المواجهة مع الإرهابيين. أما على المستوى الاستخباري، فيكشف المسؤولون أن السلطات اللبنانية باتت تملك صورة واضحة عن تركيبة تلك المجموعات الإرهابية المنتشرة بين جرود عرسال اللبنانية وجرود منطقة القلمون السورية، عند الحدود الشرقية الشمالية من لبنان. وهي باتت تقدّر حجم هؤلاء الإرهابيين بنحو ثلاثة آلاف مسلح منتظم ضمن تلك الجماعات. لكنه عدد متقلّب متبدّل وغير ثابت. فعند توافر ظروف توحي برفع معنويات الإرهابيين، ينضم إليهم مسلحون آخرون من بين المقيمين في مخيمات النازحين السوريين في الجانب اللبناني. وهو ما كان قد حصل فعلاً بعد اجتياح «داعش» لمنطقة الموصل العراقية بعد حزيران الماضي. أما بعد انحسار الشعور بالانتصار، فيعود عدد المسلحين إلى الانخفاض، وهو ما يحصل حالياً.
غير أن ما يزيد الأمر صعوبة وتعقيداً، أن هؤلاء الإرهابيين لا يخضعون لإمرة ميدانية واحدة. إذ تمكنت القوى الأمنية اللبنانية من إحصاء 19 مجموعة لهم في تلك المنطقة. أقل تلك المجموعات عدداً لا يزيد على خمسين مسلحاً، وأكثرها لا يزيد على مئتين. وإن كانت تلك المجموعات كافة تدين بولائها العقائدي لجهتين أساسيتين: «داعش» و»النصرة». ويشير المسؤولون إلى أن المعلومات التي تملكها السلطات اللبنانية تشير إلى أن العسكريين المحتجزين المتبقين في أيدي الإرهابيين، وهم 25، موزعون بين أكثر من مجموعة من تلك. مع اعتقاد بأن بعض هؤلاء ينتقل من مجموعة إلى أخرى ضمن كل من الجهتين، وذلك لأسباب أمنية أو مالية أو تنظيمية. لكن المهم أن مضمون التفاوض مع الإرهابيين تطور وتحول خلال الأشهر الماضية. ففي البداية كان الإرهابيون يرفعون سقف مطالبهم. وكانوا يحمّلون الوسطاء شروطاً من نوع ضمان خطوط اتصالهم بمدينة عرسال، من أجل تأمين إمداداتهم اللوجستية. فضلاً عن مطالبتهم بإطلاق عدد من الموقوفين الإسلاميين في السجون اللبنانية وحتى السورية. إضافة إلى مطالب مالية كانت تأتي دائماً في ختام لائحة شروطهم لإطلاق العسكريين اللبنانيين المحتجزين. لكن في مرحلة ثانية، وبعد تراجع مشروع الإمارة الداعشية في لبنان بالنسبة إلى هؤلاء، وبعد سلسلة النكسات التي تلقاها هذا المشروع في المنطقة، وخصوصاً بعد فشل كل محاولاتهم لإحداث أي خرق في خطوط التماس على الحدود اللبنانية، بدا وكأن كلامهم عن الممر الآمن إلى عرسال يتراجع. بعدها جاءت سلسلة الضربات التي وجهتها السلطات اللبنانية إلى بؤر الإرهابيين في طرابلس، وخصوصاً في سجن رومية المركزي، فتراجعت حتى مطالب الخاطفين حول إطلاق سراح الموقوفين الإسلاميين. هكذا في الفترة الأخيرة التي تلت اقتحام سجن رومية في 12 كانون الثاني الماضي، تراجعت وتيرة الوساطة مع المسلحين. وصارت الاتصالات القليلة المتبقية معهم محصورة من قبلهم ببعض المطالب المالية.
ويكشف المسؤولون أنفسهم في هذا السياق، أن لدى السلطات اللبنانية معلومات تؤكد أن مبالغ من الأموال قد دفعت فعلاً للخاطفين، ولكن من خارج التفاوض اللبناني الرسمي. وذلك إما عبر جهات خليجية كانت تتولى الوساطة في فترة سابقة، وإما عبر جهات سياسية وحزبية لبنانية، دخلت أيضاً في تفاوض مع المسلحين. ولا يستبعد هؤلاء أن تكون عمليات «الابتزاز المالي» تلك مستمرة، لكن على صعيد محدود. حتى أن شائعة كانت قد سرت قبل أسبوعين، عن محاولة إبرام صفقة شاملة مع جناح من الخاطفين الإرهابيين، لتحرير الأسرى العسكريين، مقابل مبلغ قيل إنه يناهز بضعة ملايين من الدولارات، تقدمه دولة خليجية بالتعاون مع جهات لبنانية من رجال الأعمال.
لكن المسؤولين المعنيين يتخوفون من أن تنتهي تلك المحاولات إلى الفشل. ذلك أن المسلحين الإرهابيين فقدوا أي أفق لعملهم. لا مشروع إمارة ممكناً، ولا عودة إلى استباحة مدينة عرسال كقاعدة خلفية لأنشطتهم في المنطقة. وفي هذه الحال، لا يُستبعد أن يتمسك الإرهابيون أكثر بأسراهم، وأن يستمروا في استخدامهم كورقة ابتزاز، لحصولهم على دفعات مالية صغيرة متتالية من أكثر من جهة. وذلك في انتظار تطور كبير يفرض عليهم تغيير سلوكهم هذا، أو يدفعهم إلى تصرف من نوع آخر حيال هذه القضية، سلباً كان أو إيجاباً. وفي غضون ذلك، يستمر الكلام عن التفاوض مجرد وسيلة لممارسة هذا الابتزاز، ولاستدامته لا غير.