IMLebanon

النيابة العامة العسكرية تخرج عن صمتها: لماذا لا تقول الحقيقة كاملة؟

أصدرت النيابة العامة العسكرية، يوم السبت الماضي، بياناً إعلامياً. بيانٌ، بلسان كبير قضاتها مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية صقر صقر، صيغ بأكثر من ألف كلمة، امتدح فيه القضاة أنفسهم وأشادوا بتحقيقهم في ملف تفجير كسارة (31 آب 2016)، إذ أفردوا عشرات الأسطر لتبرير خضوعهم للتدخّل السياسي وإطلاقهم مشتبهاً فيه، الموقوف بسام الطرّاس الذي استنفر «حُماة العدالة» لإخراجه إرضاءً لأهل السياسة.

وفوق كل ذلك، للتغطية على فعلتهم، اتّهموا جهازاً أمنياً بالكذب والفبركة. لمَ لا؟ فالحدود غير موجودة بين قاضٍ و«السلطة القضائية»، ويحق لهذا القاضي ما لا يحق لغيره! في البيان، حاضرت النيابة العامة في القانون ثم خرقته. لم يُفهم ماذا تُريد والازوداجية التي تتعامل فيها. تارة تقول إن القانون يحظر فضح سرية التحقيق، وتارة آخر تسترسل في سرد دقائقه.

بعد «الطبخ والنفخ» في مقدمة البيان، خلصت النيابة العامة العسكرية إلى أن «التحقيق لم يتوصل إلى بيان هويات عدد من الأشخاص، ومن ضمنهم أبو البراء». جهّلت النيابة العامة عن قصد هوية الرجل، لتُبرِّئ الشيخ بسّام الطرّاس الذي استُدعي كمشتبه فيه بناءً على إشارتها، استناداً إلى إفادة الموقوف علي غانم. و«أبو البراء» هي الكنية التي يعتمدها المشتبه الرئيسي في أنّه العقل المدبّر لعدد من التفجيرات الإرهابية التي هزّت لبنان، والذي كشف بيان للأمن العام أنّه محمد قاسم الأحمد، الرأس المدبّر لخلية الناعمة الإرهابية التي ضُبِطت في آب 2013، استناداً إلى إفادة موقوفين وإفادة الطرّاس نفسه. جهّلت مشتبهاً فيه، سبق أن أعلنت الضابطة العدلية في بيان رسمي أنّها توصّلت إلى تحديد هويته.

لقد أصدرت النيابة العامة العسكرية بياناً لتدافع عن نفسها، لتُبرّر لماذا «تكَركَب» معاون مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي هاني الحجّار ليل الأحد 11 أيلول 2016، وقصد أحد مباني المديرية العامة للأمن العام، للاستماع إلى موقوف، مؤكدة أن ذلك حقه القانوني. لا أحد يناقش في ذلك، رغم أن عشرات الموقوفين يقضون أيام التوقيف الأربعة من دون أن يروا طيف قاضٍ. غير أنّها لم تأتِ على ذكر الاتصالات الأربعة التي تلقّاها الحجّار من رئيسه القاضي صقر صقر خلال أقل من ٤٥ دقيقة (هي مدة استجوابه للطراس)، يستعجل فيها الرئيس مرؤوسه إخلاء سبيل المشتبه فيه.

اللبنانيون لا شك سيقرأون بعناية بياناً يشرح أسباب إطلاق سراح شادي المولوي

في بيانها، جانبت النيابة العامة الحقيقة في أكثر من موضع. كذّبت وقائع سبق أن ذكرها جهاز أمني رسمي في بيان رسمي، فعلّقت على ما «تمّ تداوله عن اعترافات أدلى بها الطراس قبل حضور الحجار إلى مركز الأمن العام للتحقيق معه»، بالقول إنّ «القاضي الحجار كان قد أعطى للأمن العام ظهر يوم الأحد 11/9/2016 إشارة باستدعاء الطراس للتحقيق معه، وتم إحضار هذا الأخير عند الثامنة مساءً وحتى حضور الحجار إلى مبنى الأمن العام عند منتصف الليل لم يكن بعد قد بوشر باستماع إفادة الطراس، وأن الإفادة الوحيدة التي أدلى بها هذا الأخير كانت أمام الحجار اعتباراً من الساعة 12,54 ليلاً، بحسب ما هو مدون صراحة في محضر التحقيق الجاري لدى الأمن العام». استندت إلى محضر تحقيق الأمن العام السري وكذّبت بيانه العلني. ناقضت البيان الذي ذكر أنّ «الشيخ الطراس، أثناء التحقيق معه، كشف الهوية الحقيقية للمدعو أبو البراء، المطلوب والملاحق بجريمة السيارة التي كشفها الأمن العام في بلدة الناعمة التي كانت مفخخة بـ250 كلغ من المتفجرات». وقالت إن التحقيق لم يتوصّل إلى تحديد هويته، ولذلك لم تدّع عليه. التبريرات التي ساقتها النيابة العام العسكرية لم تتوقف. وعن سبب ترك الحجار للطراس رهن التحقيق بعدما أمر بتوقيفه، زعمت أن «إشارة القضاء كانت باستدعاء الطراس وليس توقيفه، فالإشارة بالتوقيف تُعطى بعد استماع الإفادة وليس قبلها». تتهم النيابة العامة الأمن العام بترك المشتبه فيه أربع ساعات بلا تحقيق. وفي هذا، فإنها إما تلمّح إلى أن الأمن العام أراد إذلال الطراس، أو أنه مقصّر في واجباته، وإما أن الأمن العام يتعامل مع غرف التحقيق التابعة له كبهو فندق يتولى استضافة الناس فيه ثم انتظار مرور قاضٍ ما لإخلاء سبيله.

تبريرات النيابة العام لم تقف عند حد. لم تراع المنطق السليم أحياناً. ثمة تسجيل صوتي لرئيس جمعية السكينة أحمد الأيوبي، انتشر قبل وصول القاضي الحجار إلى مبنى الأمن العام، يقول فيه الأيوبي إن وزير الداخلية نهاد الشنوق أرسل قاضياً للتحقيق مع الطراس، و«هناك تفاهم مع هذا القاضي حول المسار العام». هذا التسجيل الذي حدّد وجهة عمل النيابة العامة العسكرية، قبل وصول أحد قضاتها إلى الأمن العام، لم يستفز مصدر البيان، فاكتفى بالقول إن النيابة العامة العسكرية «لا علاقة لها بخلفيات تسريبات أو تسجيلات غير صادرة عنها»، مشددة على أن «انتقال الحجار إلى مبنى الأمن العام حصل بعد تداوله الموضوع مع مفوض الحكومة القاضي صقر صقر الذي كان يتابع بدوره مسار التحقيقات، وأن التواصل مع وزيري الداخلية والعدل بشأن موضوع أمني بهذا الحجم أمر طبيعي». كذلك لم يعلّق البيان على تصريح الوزير المشنوق لصحيفة «السفير» الذي جزم بتدخله للضغط على القضاء قائلاً: «تدخلت درءاً للفتنة وتلافياً للمحظور، لأن الموقوف مفتٍ سابق».

لم يُفهم بعد سبب صدور البيان، ولا الجهة التي وفّرت له الغطاء. لكن لا بد من الاعتراف بأنه يشكّل بداية إيجابية في مسيرة «النيابة العامة» التي حكمت على نفسها بالصمت، فلم تشرح للبنانيين بعد دوافع «ارتكابها» بعض القرارات سابقاً، كادعائها قبل أشهر على طفل في الثامنة من عمره بتهمة «معاملة رجال الأمن بشدّة»، أو إطلاقها سراح الموقوف يوسف ديب الذي اعترف أمام محققي الأمن العام بأنه كان يُعدّ لتفجير نفسه بحزام انتحاري، وما لبث أن فرّ إلى مناطق سيطرة «جبهة النصرة» بعد إطلاق سراحه. اللبنانيون لا شك سيقرأون بعناية بياناً تشرح فيه النيابة العامة العسكرية أسباب إطلاق سراح شادي المولوي عام 2012. للبنانيين الحق بأن يعرفوا، ما دامت النيابة العامة العسكرية قررت الخروج عن صمتها. اللبنانيون يا ريّس، الذين تتقاضون رواتبكم من أموال ضرائبهم، لتحكموا باسمهم… بالعدل.