Site icon IMLebanon

من أَوْلى في تحليل الحروب جيوستراتيجيًّا من كبار الضُّباط؟

 

 

 

وصلني بالتواتر عبر وسائط التواصل الاجتماعي منشوراً يبدو انه مأخوذ من أحد المواقع الصُّحفيَّة، وقد تضمن الآتي: «يكثر ضباط متقاعدون من الإطلالات الإعلامية بعد فترة قصيرة على تقاعدهم ومغادرتهم الحياة العسكرية، ولا يُحسنُ أكثرُهم الحديث في الأوضاع المحلية والدولية التي يتناولونها، ولا يقدمون أنفسهم إلّا بصفة خبراء استراتيجيين».

في الواقع كنت أتمنى أن يصار إلى التعقيب على هذا المنشور من بعض أو أحد ضباط الجيش اللبناني ممن أحيلوا على التقاعد ويطلون عبر وسائل الإعلام لتناول المُجريات على الساحتين المحلية والدوليَّة، إلّا أن ذلك لم يحصل، ولكون مضمون المنشور مُستفز بعض الشيء وينطوي على إساءة للضباط المُتقاعدين عامة، ولكوني أرى في من أعدّه وعمل على نشره يبتغي من ذلك التَّطاول على الضباط أو لكون من يعمل لصالحه مُستاء مما يقوله بعض الضُّباطُ أو ما يدرجونه في متن تحليلاتهم، ورغم يقيني انني لست من المقصودين بالمنشور، إلّا انني أرى نفسي مَعنيا بالرد.

 

وبغض النظر عما إذا كان معدّ المنشور ممن يمتهنون السياسة في لبنان أم صحفيا غير حيادي يعمل لصالح مرجعية سياسية أم يناصر مُكوِّنا مُعينا من المكونات السياسية أم أنه مجرد مُتطفل على الكتابة أو التعقيب على ما قيل ويقال ويُنشرُ عبر وسائل الإعلام، أو لمُجرد شدّ الانتباه إليه كجريء أو… لذا أراني مُضطرا لتوضيح التالي:

إن الضباط العسكريين والأمنيين المتقاعدين عامة والمُجازين بشهادة أركان «أي دراسات عسكرية عليا» على وجه التحديد (وأنا لست منهم) هم أكثر المهيّئين لتحليل المسائل الاستراتيجية والمُستجدات العسكرية بانعكاساتها الجيوسياسيَّة على الساحتين المحلية والدولية، هذا من الناحية العلمية، كونهم درسوا وربما يُدرِّسون المواد ذات العلاقة بعلم الاستراتيجيا من ألفه إلى يائه ومن مختلف جوانبه، وهم بطبيعة الحال خبراء متخصِّصون في هذا المجال لاكتسابهم الخبرات بحكم تجاربهم العملية على أرض الواقع على خلاف من يتولّون تلاوة ما يُملى عليهم ممن يُشغِّلونهم.

 

ويبدو أن مُعدّ المنشور قد فاته ان منشأ التخطيط والتحليل الاستراتيجي هو العلوم العسكرية، والتي كانت بدايتُها مع دراسة وتحليل الأعمال القتاليَّة ومن ثم الحروب بغرض التَّخطيط المسبق لربح المعارك ومن ثم تطور إلى دراسة فن القيادة وبعدها دراسةِ كيفية تحقيق الانتصارات في الحرب، وغيرها من الأمور ذات العلاقة بالحروب وأغراضها وكيفية استثمار نتائجها جيوسياسيا، ومن العلوم العسكرية تسرَّبت الاستراتيجيا كعلم الى معظم العلوم والمجالات التطبيقية الأخرى، بدءا بعلم الإدارة ومن بعدها إلى السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية… الخ، ولكنه لغاية اليوم يبدو أنه لم تصل أصول هذا العلم لمسامع مُعد المنشور.

إذن الاستراتيجيا هي علم قائم بذاته له أصوله ومرتكزاته وآدابه، وليست مجرد تخرّصات أو تفاهات يطلقها البعض كفرمانات يزوّده بها شخص من هنا أو هناك يكلّف بتسويقها وترويجها من قبل جهة محسوب عليها، أو يسعى الى تعميم توجهاتها وتبرير هفواتها وارتكاباتها تمهيدا لتحقيق أغراض فئوية لا تخدم الوطن، ذلك لأن التحليل الاستراتيجي ينبغي أن يكون متجرّدا ومنطقيا وغير منحاز وبعيدا عن الأهواء والميول والاعتبارات الفئوية والشخصية، كما ينبغي أن يُبنى على معطيات واقعية وصحيحة شبه شاملة. والتجرد هو مزيَّةٌ من مزايا العسكريين، والتي ترفِّعُهُم عن الأنانيات والانتماءات الفئوية، وعيبهم في هذا الإطار يكمن فقط في تغليب انتمائهم الوطني على أيَّةِ اعتبارات أخرى، ومن هنا ينبع ولاءهم له ولشعبه لا لأية جهات خارجية أو مرجعية سياسية أو لأي من المكونات السياسية الداخلية، وهذين الأمرين أي الخلفية العلمية والتجرّد يعتبران مرتكزين أساسيين ينبغي أن يتوفرا لدى المُحلل الاستراتيجي، هذا طبعا بالإضافة إلى القدرة على التحليل والاستنباط وسعة المعلومات، وهذا أيضا متوفر لدى أكثرية الضباط وخاصة المتقاعدين بعد تحررهم من تبعات السُّلطةِ التراتبيَّة، إلّا قلَّة منهم ضلَّوا عن الأدبيات العسكريَّة وارتضوا أن يكونوا أبواقاً لبعض الأحزاب أو القوى الميليشياوية، كيف لا وإن انتساب إلى المدرسة الحربيَّة يتوقف على تفوّق الفائزين وتمايزهم عن آلاف المُتقدمين إليها.

 

وبالعودة الى مضمون المنشور وما تضمنه من سفاف الكلام، وبالتَّحديد استعمال عبارة «ولا يحسن أكثرهم الحديث عن الأمور المحلية والدولية…» والتي يبدو من خلالها أن مُعدَّه أو من يقف خلفه مستاؤون من تحليل المجريات والتَّطورات السياسيَّة والعسكريَّة على نحو موضوعي ويصبّ في المَصلحة الوطنية العليا، أم لأنه محكومٌ بنزعتي الاحتكار وعداوة الكار، فينظر إلى العسكريين كمنافسين لا يقوى على مُقارعتِهم الرأي بالرأي والحجَّة بالحجَّة والبرهان بالبرهان، ولا حتى على نقد ما يقولون بالمُباشر وبروح علميَّة، كما وكأني به لا يتحلّى بآداب التَّخاطُب لتعمُّدِه التَّعميم وتبنّيه أسلوب الاغتياب واعتمادِ صيغة المَجهول للتجهيل.

لو كان كاتب المنشور يتحلّى بالجُرأةِ لطلب مواجهة أحدِ الضُّباط ممن لا يرى فيهم خُبراء أو مُحللين استراتيجيين بجلسة تلفزيونيَّة حوارية مُباشرة ومفتوحة، ويفحمه مُباشرة على الهواء ليثبت ما يزعمه بالفعل، وحبَّذا لو أنه عمد إلى كتابة مقالٍ يُبيّن فيه الأخطاء التي وقع بها بعض الضُّباط في بناء تحليلاتهم واستقراءاتهم وعدم منطقيَّةِ ما يَخلصون إليه من نتائج.

وأختم بالقول بئس زمن، انقلبت فيه المقاييس، واحتلّ الفجّار مقاعد الأخيار، ويهمّش فيه الراجحون في العلم، وتصبحُ فيه المنابرُ والأقلام لتُجار الكلام والمزايدين والمُطبّلين والمزمّرين، وتغلَّبُ الأصوات الفئويَّة غير الحياديَّة على أصوات الحريصين على الوطن والسلم الأهلي، وحماية المجتمع من كل الموبقات وفي طليعتها الأصوات النشاذ.

بئس زمن أضحى يُستسهلُ فيه التَّطاولُ على من نذروا أنفسَهم للذَّودِ عن الوطن، ولا يجرؤ أحدهم على الرد أو التعقيب، بئس زمن يُدفع فيه العسكريون والأمنيون للتَّسكُّع أمام شَركات الأمن والحِراسة والمقاهي والمطاعِم لاستِجداء فُرصَةِ عمل كنادل أو حارس أو «فاليه باركينغ»، أو يُضطر أبطاله العَسكريون والأمنيون للتَّسكُّع على الطُّرقات ليَجدوا من يتحنَّن عليهم ويقلّهم ولو كيلومترات معدودات خلال تنقلاتهم من وإلى مراكز عملهم، بئس زمن أصبحت فيه رواتب الضُّباطِ والعسكريين في أدنى مُستويات رواتب القِطاع العام، بئس زمن تُستنزفُ فيه اللغة العربية بحثاً عن مُصطلحات فقط بغرضِ إقصاء الموظفين المُتقاعدين الذين أفنوا شبابهم في خدمةِ الوطن عن باقي زملائهم، وذلك بغرض الافتئات عليهم والتَّطاولِ على حُقوقِهِم الماليَّة، وفي الوقت عينه لإغراءِ بعض من الموظَّفين في بعضِ القطاعاتِ الوظيفيَّة حصراً لحثَّهم على التكرُّمِ بالإلتزامِ بواجب الحضور إلى مراكز عملهم لبضعةِ ساعات يوميًّا وعدَّة أيام في الأسبوع الى مراكزهم عملهم، في الوقت الذي كُنا نقضي ساعاتنا وأيامنا وليالينا وما فات من عمرنا منكبين على مهامنا، معرِّضين أنفسنا وأفراد عائلاتنا لأشدِّ المخاطر.

ما كان لناقِصٍ أن يتجرأ على التَّطاول على الضُّباط عامَّة وعلى من يطلّ منهم عبر وسائل الإعلام، ويطلق العنان لكلامِهِ الهابط لو أن سلطاتنا الرَّسميَّة لم تكن المُبادرةَ إلى نُكران جميل الأسلاك العسكريَّةِ والأمنيَّة، وأمعنت في إهانتهم وإذلالهم من باب لُقمَةِ عيشِهِم وطبابتِهم وتعليم أبنائهِم، للأسف إن العسكريين والأمنيين عامَّة والضُّباط بخاصَّة يدفعون كُلِّ هذه الأثمان، بسبب التزامِهِم الصَّمت والتَّحلي بمناقبيَّتهم العَسكريَّةِ ولن يشفع لهم انتماؤهم وولاؤهم للوطن، لذا هم مدعوون للرد على كُلِّ من يتجرأ على التَّطاولِ عليهم أو على حقوقهم، وإن مقالتي هذه لا تُعفي من قصدَهُم مُعدّ المنشورِ من مسؤولية الرَّد عليه، ودعوتِهِ لنِقاش مُباشِر وعلى الهواء، وليحكُمَ المشاهدون والمُستمعون ما إذا كانوا أهلا للتَّحليل الاستراتيجي بأبعاده العسكريَّة السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والجغرافيَّة، أو أنه كان مُحقاً في توصيفِه لهم. ولنرى من هم الأولى بالتحليل الاستراتيجي أكبار الضُّباط أم المتطفلون على هذا العلم؟!!

* عميد متقاعد