Site icon IMLebanon

خدمة العلم ضرورة لاستقرار لبنان

 

يبدو «داعش» وكأنه يسير في نهجٍ معاكس لمناهج حرب العصابات التقليدية التي تمر عادة بثلاثة فصول أساسية. أول هذه الفصول هو كسب تأييد المواطنين والمواطنات وولائهم عبر الدعاية وعبر تحريضهم على حمل السلاح ضد العدو. والثاني هو فصل المقاومة الفعلية للعدو عبر استخدام أشكال الكفاح كافة للتخلص منه، وفي هذا الفصل يتم الحفاظ على الطابع السري للعمل وتجنب كشف الخلايا والجماعات السرية التي تعمل في إمرتها، ويستمر الالتزام بقاعدة «أضرب واهرب» بغرض الحفاظ على النفس في مواجهة قوات أكثر عدداً وأفضل تسليحاً. أما الفصل الأخير فيتمحور حول الإجهاز على قوات العدو وعلى السلطة التي أقامها واستبداله بحكم يتبع الثوار ويعمل بإمرتهم.

ويعني الانتقال من فصل إلى آخر النجاح في إنجاز مهمات الفصل السابق والتبدل في موازين القوى لمصلحة حركة المقاومة. وإذا ما قارنا هذا المسار، مع الفصول التي مر بها «داعش» منذ أعلن قيام دولته في المشرق العربي، نجد أنه يسير في طريق معاكس لذاك الذي مرت به حروب العصابات في بعض دول العالم الثالث. فخلافاً لتلك النماذج التقليدية، بدأ «داعش» الإمساك بالأرض وبإقامة كيانه على مساحة واسعة منها، ضمت عدداً مهماً من المدن العربية في الشرق والغرب. وحقق «داعش» على هذا الصعيد نجاحاً ملموساً، خصوصاً عندما احتل مدينة الموصل بأقل كلفة ممكنة وبعدد قليل من المقاتلين. فهل قدم «داعش» نموذجاً جديداً لحرب العصابات يختلف عن النماذج المشار إليها أعلاه؟ وهل ينجح «داعش» في الحفاظ على «دولته»، على رغم أنها لم تستكمل شروط قيامها؟

يقول بعضهم في معرض التحذير من خطر «داعش» والحض على مقاومته، إن الإعلان المبكر لقيام دولة «داعش» لا يقدم دليلاً على تجاهلها لدروس حرب العصابات ومؤشراً على تخبطها، بل يقدم دليلاً على أن حرب العصابات لا تخضع لقوانين صارمة وجامدة كما أكد بعض قادة هذه الحروب، خصوصاً ممن شهدوا الحرب الفيتنامية. إذا صحت هذه الدعوة الأخيرة، فإنه يمكن القول إن «داعش» لا يسير على طريق التراجع، بل إنه لا يزال يحتفظ بقوته، ويطبق الأساليب والخطط في ضوء التطورات المحدقة به. وينبغي استنفار الطاقات الضرورية كافة لتحييده والقضاء عليه.

آخرون يقولون إن «داعش» لم يكن يمسك بالمبادرة عندما تخلى عن الأرض، وعندما أوعز إلى عناصره بالتخلي عن مواقعه المكشوفة في المدن العراقية والسورية والليبية التي تتعرض إلى هجوم مركز من قبل قوى مناوئة له. هل يعني ذلك أن «داعش» على طريق الانحسار وأنه لم يعد يشكل خطراً يوازي خطره عندما أعلن البغدادي قيام «دولة الخلافة» في العراق والشام؟ إن نشر مئات الخلايا السرية التابعة لـ «داعش» في شتى أنحاء المنطقة العربية، هو حصيلة تراجع في قوته وسطوته وعجزه عن حماية وجوده في المناطق التي استولى عليها. إلا أن هذا التراجع لا يعني أن «داعش» بات أقل خطورةً، وأن ضرباته ستكون أقل عنفاً وضراوةً من السابق. على العكس، فإنه قد يسعى إلى تعويض ما خسره من الأرض ومن المواقع الحيوية في المنطقة العربية عبر اللجوء إلى ضربات أقسى وأشد من ضرباته السابقة. هذا النهج ليس غريباً على بعض القوى التي تسلك طريقاً مشابهاً للطريق الذي ينتهجه «داعش». إن التراجع السياسي الذي أصاب الخمير الحمر في كمبوديا لم يحد من نزوعهم إلى ارتكاب المجازر وأعمال الإبادة التي طاولت نحو مليوني مواطن، بل زادهم إصراراً وتمسكاً بالطريق الذي سلكوه منذ أن استقروا في السلطة. فأي طريق يختار «داعش» في الظروف المقبلة؟

في المرحلة الجديدة من الأرجح أن يتجه «داعش» إلى تصعيد ضرباته وأنشطة خلاياه النائمة في دول المشرق، خصوصاً تلك التي تتمتع بصفة المجتمعات المفتوحة والتعددية والتي تستقي مشروعيتها من الإرادة الشعبية. فهذا النوع من الكيانات يحتل، بحد ذاته وبصرف النظر عن الظروف الطارئة والأوضاع الراهنة في دول الجوار، مكانةً مرموقةً في بنك الأهداف «الداعشية».

ويخشى هنا أن يحظى لبنان باهتمام خاص من «الداعشيين»، وأن يضاعف من هذا الاهتمام ما يحصل في العراق من تحضير وإعداد لإخراج «داعش» من الموصل، وإعادة المدينة التاريخية إلى حضن العراق الموحد. كما أن ما حصل في لبنان أخيراً جدير بأن يؤجج رغبة «داعش» في الانتقام منه. فليس من السهل التغاضي عن اعتقال عماد ياسين «أمير داعش» في لبنان، مع تعطيل مشاريعه الكثيرة التي كان بينها اغتيال شخصيات سياسية لبنانية مرموقة، وتنفيذ عمليات تفجير واسعة النطاق في المناطق اللبنانية ذات الكثافة السكانية العالية.

وبينما تحث هذه الأحداث والتطورات القيادات اللبنانية على إيلاء التحديات الأمنية التي تواجه لبنان أولويةً قصوى، فإن هذه القيادات لا تستطيع تجاهل التحديات الاقتصادية والاجتماعية الملحة والمتراكمة التي يمر بها البلد. وتنفذ الهيئات الاقتصادية اليوم وقفة تضامنية محقة «مع الاقتصاد الوطني» بأمل وقف التدهور الذي لم تنفك هذه الهيئات عن لفت النظر إليه، والإشارة مراراً إلى أخطاره. وتشير بيانات الهيئات الاقتصادية بحق إلى أن الأزمة التي يمر بها لبنان لا تحتاج إلى معالجات اقتصادية فحسب، بل على سائر الأصعدة التي تمس أحوال المواطنين. وبما أن الأزمة وصلت إلى هذا المستوى، فقد تعهدت الهيئات الاقتصادية تطبيق خطة تحرك متدرج تصعّد الضغط على أصحاب القرار حتى يستجيبوا لمطالبها.

إن تداخل التحديات السياسية والأمنية يتطلب مراجعة دقيقة للحلول التي يقترحها المعنيون بالشأن اللبناني لإنقاذ الأوضاع من التدهور. وفي مقدم هذه الحلول انتخاب رئيس الجمهورية، وهو شرط ضروري لتأمين الحد الأدنى على الأقل من سلامة الأوضاع اللبنانية.

إلى جانب الرئيس الجديد، فإن من الضروري أيضاً حفاظاً على لبنان من التحديات المحدقة به، إحياء قانون خدمة العلم. لقد تم إبطال هذا القانون من دون تقديم مبررات ومسوغات جدية لهذا العمل. فلبنان بلد لا يزال في حال حرب مع إسرائيل. وهذا أمر لا يمكن تجاهله ولا التقليل من تداعياته. إن إسرائيل لا تقيم أهميةً لسيادة الدول المجاورة لها، ولا تعترف بحقوقها بدليل السياسة التي تتبعها تجاه قضية المياه والأنهار التي تمر بلبنان، وقضية الغاز والنفط في المياه الإقليمية اللبنانية. والطيران الإسرائيلي لا يكف عن انتهاك الأجواء اللبنانية.

قد لا يجادل بعضهم في أهمية إحياء قانون خدمة العلم بعد إصلاحه، لكنه يتساءل عن كيفية تغطية كلفة قانون خدمة العلم. بالطبع هذا سؤال في محله وفي وقته. إن الهيئات الاقتصادية اللبنانية هي الأولى بالإجابة على هذا السؤال لأنها في طليعة المستفيدين من استقرار الأوضاع اللبنانية. ولكن إذا لم تكن هناك إجابات محلية على هذا المقترح، فمن المستطاع إحالة هذا المشروع على مرجع دولي. فعمّا قريب ينعقد مؤتمر للمجموعة الدولية لأصدقاء لبنان. وتسبق هذا المؤتمر إشادات عدة من قيادات عسكرية دولية «بمستوى الحرفية والتفاني والالتزام الذي يتمتع به الجنود اللبنانيون»، وكذلك بالدعم الشعبي الذي تتمتع به القوات اللبنانية المسلحة.

وفي الوقت الذي يحظى فيه الجيش اللبناني بمثل هذا التقدير في الأوساط الدولية المعنية بالشأن اللبناني، فإن منسقة الأمم المتحدة لشؤون لبنان سيغريد كاغ تلاحظ أن الجيش يتحمل مسؤوليات كبرى وأن من الضروري دعمه حتى يواصل دوره الإيجابي. وفي هذا السياق، تقول كاغ إنها طلبت من وزير الدفاع تزويدها بقائمة بالمساعدات المطلوبة للجيش بقصد تقديمها إلى الدول الأعضاء في الأمم المتحدة والتي تعنى لأسباب شتى بالمسألة اللبنانية. فهل يستجيب الوزير اللبناني لهذا الطلب الدولي ويقدم إليها طلباً لدعم إعادة تطبيق خدمة العلم في لبنان؟ إن أصدقاء لبنان يعرفون أن مشروعاً من هذا النوع لا يخدم لبنان فحسب، بل يخدم أيضاً المجتمع الدولي بأسره.