بعد استراحةٍ قصيرة، رفعَ خاطفو العسكريين مستوى حربِهم النفسية على لبنان، حكومةً وأهالي. واستعادوا في الساعات الماضية «لغة المهَل»، مهدّدين بقتلِ عسكريين جُدد، ما دفعَ إلى البحث عن الأسباب الموجبة التي دفعَتهم لإعادة اللعب بأعصاب الأهالي وبالأمن وبحركة السَير في العاصمة، ما أدّى إلى بروز أكثر من سيناريو… وهنا أبرزُها.
كانَ من المتوقّع عندما سُدَّت السُبل في وجه اعتماد أيّ من السيناريوهات الثلاثة التي قدّمتها «جبهة النصرة» لفكّ أسر العسكريين، أن تكون ردّة فعلها معبّرة عن الغضب الذي تمَلّكها. فالخيارات التي قدّموها عبر الوسيط القطري أحمد الخطيب رُفضت لبنانياً، بعدما منّوا النفسَ بواحدة منها.
فقد انتظر الخاطفون موافقةَ لبنانية على الخيار الثالث الذي دمَجت فيه الجبهة مطالبَها بين لبنان والنظام السوري ووضعَتهما في جبهة واحدة، وقادَ رفض النظام السوري التعاطي مع لبنان في هذا الملفّ كما تصرّف في ملفّي «مخطوفي إعزاز» و«راهبات معلولا»، اللبنانيين الى الرفض أيضاً. وهو ما ترجَمه المفاوض اللبناني بتحميل الوسيط القطري «عرضاً رابعاً».
وهو العرض الذي أخَذ من الخيار الثالث ما هو مطلوب من لبنان وألغى حصّة السوريين منه، فرفض الخاطفون العرض وحمّلوا الوسيط القطري جواباً سلبياً، فنقلَه الى المسؤولين وغادرَ الى الدوحة.
يقرّ العارفون بأنّ الربط بين ما هو مطلوب من لبنان وسوريا في عملية تفاوضية واحدة لم يكن أمراً ملائماً بكلّ المقاييس اللبنانية والدولية. فالعيون مفتوحة على تصرّفات المفاوض اللبناني.
ذلك انّ المواجهة بعد تشكيل الحلف الدولي لم تعُد بين الحكومة اللبنانية ومجموعة من المسلحين، وباتت الأمور مرتبطة بعضها ببعض. ويدرك الجميع أنّه، وإن قبلَ المفاوض اللبناني بعروض المجموعة الإرهابية، فهناك عيون دولية تراقب عن كثَب كلّ خطوة أو اتّصال وموقف في هذا الإتجاه.
وإلى جانب رفض معظم اللبنانيين وفئات ممثلة في الحكومة إطلاق أيّ من المسؤولين المتورّطين في التخطيط أو الإيعاز أو في تنفيذ العمليات الإرهابية التي طاولت مواطنين او عسكريين، هناك لبنانيون سيرفضون هذه الخطوة وسينسفون الحكومة من أساسها إن تطوّر الموقف اللبناني في هذا الإتجاه. والرافضون ليسوا أقلّية، فهُم من مكوّنات الحكومة الأساسية.
كما أنّ هناك جهات دولية دخلت على خط المفاوضات، محذّرةً من إطلاق إرهابيين لم يتورّطوا في عمليات أمنية وسخة في لبنان فحسب، بل لهم أدوار كبيرة في عمليات إرهابية طاوَلت مواطنين أو دوَلاً أو عواصم أخرى، وبات التعاطي في هذا الملف على المستوى اللبناني ضرباً من الجنون، كما يعترف أحد أبرز المكلّفين فيه.
أضِف إلى ذلك، دفعَ رفض الحكومة السورية إلى مزيد من التشدّد في الموقف اللبناني الذي باتَ بين شاقوفي حماية التركيبة الحكومية اللبنانية الهشّة، وسعي دمشق إلى اعتراف لبنان الرسمي، المستحيل، بالحكومة السورية ودورها. فالحكومة السورية تطارد الخاطفين في جرود عرسال برّاً وجوّاً، ومعها مسلّحو «حزب الله»، من دون النظر إلى ما يمكن أن تؤولَ إليه قضية المخطوفين.
وعليه، ارتفعَ منسوب التوتّر لدى قيادة المسلحين من خلال استدراج عائلات المخطوفين الى جرود عرسال للإفادة من ردّات فعلهم بعدما تعرّضوا للإهانة والترهيب بعد الترغيب بتنظيم زيارات إلى أبنائهم. وقد اجتمعوا بهم في ظروف مأسوية أقلّ ما يقال فيها إنّها خالية من أيّ مظهر من مظاهر الإنسانية. وكلّ ذلك ليس صدفةً، فقد هدفَ الخاطفون إلى استغلال ردّات الفعل الطبيعية لأمّ تجاه ولدها، أو زوجةٍ تجاه زوجها لزيادة التشنّج.
ولم يكتفوا بتقديم هذه الصورة، التي قد تكون موَقّتة في ظلّ الضمانات السابقة بعدم المسّ بالمخطوفين أو قتلهم، بل رفعوا من شروط المواجهة فيبيروت وطلبوا إلى الأهالي إعادة تقطيع شرايين العاصمة وقطع الطرُق الدولية، علّهم يطيلون بأعمار أبنائهم ساعات إضافية، قبل أن تأتيَ تطمينات بأنّ العملية أرجِئت أياماً، كما حصل بعد ظهر أمس.
هذا غيضٌ من فيضٍ في المواجهة المفتوحة بين الإرهابيين والمسؤولين اللبنانيين الذين يستعدون على ما يبدو ومن خلال ارتفاع الحرب النفسية، إلى جولةً جديدة من العنف ليس أقلّها التسلّل عبر الحدود، أو العودة إلى لغة السيارات المفخّخة في مناطق حساسة غير تلك التي كانت مستهدَفة بوضوح. وهي سيارات وعبوات متوافرة محلياً بعد إقفال «مصانع يبرود الوهمية»، لأنها موجودة في مناطق لبنانية عدّة ويمكن توفيرها على طريقة «الدليفيري» لمن يشاء.