في كل حربٍ أو صراعٍ أو قضيّةٍ مختلفٍ عليها بالضّرورة، يجب عليك أن تكون مستعدّاً وجاهزاً لاستماع شتّى أنواع القول من أصحاب العقول المدجّجة بالسلاح النوعي والاستراتيجي، وتخيّلات الروح الإنتصاريّة، ورؤى القلوب التي لا تعرف الهزيمة، وأن تتلقّى بصدرك اتهاماتٍ فائقة الجودة والقوة والبطش تطعن في ولائك وأفكارك وإيمانك، وتصنّفك في أحسن الأحوال في خانة أصحاب القلوب الضعيفة والنفوس الضّالة ما دمت في انتمائك الوطني مستقلاً عن هوى وهيام قلوبهم، وبعيداً عن مسار ارتجاجات عقولهم وزلازل أفكارهم العابرة للحدود ولو على جثّة وطن.
هناك فقط وسط ركام الحرب والقتل والدمار وقوافل الشهداء من القادة الكبار والمقاتلين، وآلاف الرجال والنساء والشيوخ والأطفال فقدتهم عائلاتهم في مصابٍ أليمٍ وعظيم، ومنهم أرباب عمل وشركات ومحلات ومصانع، ومنهم عمال وكادحون وشباب واعدون، وأرباب وربّات أسرٍ حالمون بأمن لله وأمانه ورزقه لهم ولعيالهم، ومستقبل ضاع في مجاهل الحاضر وخرابه، هناك فقط وليس في مكان آخرٍ يمكن أن تبحث عن إبرة نصرٍ أو نجاةٍ لما تبقّى من روح الروح في كومة الهزائم والخسائر الفادحة التي ضربت لبنان وأحلامه ضرباتٍ صاعقة وساحقة حتّى يكاد الموت يسير في كل بلدة ومدينة وشارع ويقرع الدمار كل باب ودار ومتجر، وكل مستشفى ومدرسة ومعالم أثرية وكنيسة ومسجد.
في ميزان قوة الإرادة والصمود أنت منتصر ما دمت حيّاً صلباً في عزيمتك حتى في وجه القوى العاتية والغاشمة والمجرّدة من قيم الحق والأخلاق. أنت منتصر كإنسان ما دام العدو عاجزاً عن قتل الإنسان في داخلك، وما دام يائساً من كسر عنفوانك واهتزاز إيمانك بقضيتك ويقينك. لكن في ميزان الأهداف المعلنة للحرب والخسائر الفادحة من الجانبين، فإنك كفريقٍ محارب وليس مجرد فريقٍ مراقب، تضع نفسك في أول طريق نصرٍ مستقبلي عندما تكون مدركاً حقيقةً أين هُزمت وكيف خسرت وحيثما شئت دون أن يمنعك في مكانٍ كبرياءٌ زائف أو سلطة جائرة ومنحرفة، وإنك لتضع نفسك في هزائم متتالية كلّما مضيت في إنكار الواقع والأخطاء وغرقت في وحول المستنقعات، أو أصبحت كمن يركضون خلف السراب فوق جمالهم العطشانة، أو كمن يتباهى بحماره المغبون ويستعدّ به للمنازلة في ميدان سباق الخيل!
حماس أين هي من النصر والهزيمة؟
في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ حقّقت حماس نصراً عسكرياً غير مسبوق في مواجهة العدو الإسرائيلي في عملية عسكرية هجومية قامت بها الحركة وفصائل المقاومة الفلسطينية المشاركة في معركة طوفان الأقصى ، إلا أن هذه العملية قد بدت منذ وقوعها بلا أفق سياسي واقعي من خلال موازين القوى الإقليمية والدولية السائدة، ومواقف الدول المعروفة من الصراع بما فيها الدول العربية والإسلامية، وذلك بالرغم من الأهداف والعناوين الكبرى التي حملها الطوفان من شعارات تحرير القدس والمسجد الأقصى، وتصفير السجون الإسرائيلية من آلاف الأسرى الفلسطينيين، ووحدة الأمّة والساحات في حرب وجوديّة مع الكيان الصهيوني الغاصب.
قد تكون حماس كتبت هزيمة لاحقة لنفسها بسبب انعدام الأفق السياسي الواقعي لعمليتها العسكرية التي أذلت بها الكيان الإسرائيلي وأذاقته المرارة التاريخية ووضعته في خطر وجودي، لكن دون ان تصحّ حساباتها لحجم ردة الفعل الإسرائيلية المجنونة والإنتقامية ومعها الولايات المتحدة الأميركية ودول الغرب والحلفاء. وحتى أنه تكاد لا توجد دولة واحدة في العالم بما فيها روسيا والصين إلا وصنّفت الأعمال التي قامت بها حماس والمقاومة الفلسطينية في ٧ اكتوبر بالأعمال الإرهابية، وكذلك أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي أكد على أن هجوم حماس كان إرهابياً بالفعل ولكنه أزعج خاطر إسرائيل عندما قال أن هذه الأعمال لم تأت من فراغ في إشارة واضحة إلى أنها ناتجة عن الإحتلال الإسرائيلي وعدوانه المستمر على الشعب الفلسطيني الأعزل وتهديده للمقدسات المسيحية والإسلامية.
ومع الأسف أخطأت حماس في اعتقادها بأنها اللحظة التاريخية المناسبة لتحقيق النصر الكبير على طريق تحرير القدس في ظل الإنقسام والصراع الدامي بين الأخوة الفلسطينيين الناتج عن تبعية الحركة لسياسات المحور الإيراني الذي ترى فيه السلطة الفلسطينية والدول العربية المتبنيّة لمبادرة السلام العربية تهديداً للأمن والسلم الدوليين، وخطراً على الأمن الوطني الفلسطيني والأمن القومي العربي. وهكذا حلّت الكارثة بعد هذا الطوفان في غير مكانه وزمانه الصحيحين فكانت نكبة أكبر وأفظع من نكبة العام ١٩٤٨، وهي أخطر وجودياً على القضية الفلسطينية في ظل حرب الإبادة الجماعية المتواصلة بوحشية ضد الشعب الفلسطيني، وجرائم الحرب والتطهير العرقي في قطاع غزة من شماله إلى جنوبه دون رادع حقيقي، لا من أمة عربية وإسلامية ولا من دول العالم كافة. وكان على الحركة أن تدرك، وهي تدرك أن العرب هم خارج دائرة الصراع المباشر مع العدو الإسرائيلي منذ توقيع اتفاقيات كامب دافيد الأولى والثانية في العام ١٩٧٨ وتوقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في العام ١٩٧٩. وكذلك تركيا الدولة الإسلامية الكبرى وعضو حلف الناتو خارج هذه الدائرة الضيّقة، وحتى إيران أعلنت أنها لم تكن مشاركة أو عالمة بعملية طوفان الأقصى! وبدوره السيد (الشهيد) نصر لله قال في كلمته الأولى بعد الطوفان: «طوفان الأقصى فلسطيني مئة بالمئة»، في دلالة واضحة على عدم رغبة المحور وقيادته في طهران في التورط المباشر في هذه الحرب، وإن كانت جبهة الإسناد الخجولة التي فتحها حزب لله في الثامن من أكتوبر ٢٠٢٣ قد استغلتها حكومة العدو تدريجياً لتوسيع نطاق العمليات في الشمال واغتيال قيادات المقاومة وصولاً إلى إشعال حرب شاملة مع حزب لله بعد مجزرة تفجيرات أجهزة البيجر واللاسلكي واستهداف قيادات الصف الأول والصف الثاني وقادة الرضوان وأمين عام حزب لله السيد حسن نصرلله ورئيس المجلس التنفيذي الذي كان مرشحاً لخلافته السيد هاشم صفي الدين.
ماذا بعد وقف إطلاق النار وإقفال جبهة إسناد غزة في جنوب لبنان؟
بقرار ذاتي وبتوجيه وتنسيق مفترض من طهران بدأ حزب لله بشن عمليات عسكرية ضد المواقع الحدودية الإسرائيلية ضمن ما اصطلح على تسميته بقواعد الاشتباك وفي إطار ما سمي بجبهة إسناد غزة في جنوب لبنان، دون الرجوع إلى مؤسسات الدولة اللبنانية، وبعدها كانت جبهات الإسناد في اليمن والعراق والبحر الأحمر تعمل في إطار مبدأ وحدة الساحات بالتنسيق مع مركز المحور الإيراني في طهران. وبعد أكثر من عام وشهرين على بداية الحرب لا يبدو أن جبهات الإسناد لغزة قد خففت من وطأة وثقل المصير الكارثي والتدمير الشامل والإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، بل أنها ساهمت في تمديد المساحة الكارثية والإجرامية للعدو الإسرائيلي وفي مضاعفة أعداد الشهداء والجرحى دون تحقيق إنجازات حقيقية تذكر على صعيد القضية الفلسطينية، فحلّت النكبة والقتل والدمار في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، ولم يوفر العدو العاصمة وباقي المدن في الجبل والشمال من ضربات طالت مناطق النازحين والمدنيين. وفي ٢٧/١١/٢٠٢٤ تم الإتفاق بين حزب لله وإسرائيل على وقف إطلاق النار والالتزام بتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم ١٧٠١ برعاية الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما يعني عملياً إقفال جبهة الإسناد في جنوب لبنان، وبداية تفكيك البنى التحتية والعسكرية لحزب لله، وانسحاب الحزب إلى شمال الليطاني ومنع تسليحه مجدداً سواء عبر نقل الأسلحة إليه من المعابر الحدودية أو عبر إنتاج الأسلحة محلياً، وبسط سلطة الدولة وسيادتها على كامل الأراضي اللبنانية، وجميع هذه النقاط لا يمكن إلا أن توضع في كفة الخسائر الاستراتيجية لحزب لله وحماس، سواء لجهة الهزيمة الواقعة بإقفال جبهة الإسناد اللبنانية قبل انتهاء الحرب في غزة، والاستفراد مجدداً بالشعب الفلسطيني الأعزل، أو لجهة فرض تطبيق الالتزامات المنصوص عليها في القرار ١٧٠١ على حزب لله بعد ثمانية عشر عاماً من عدم تنفيذه، وبعد أثمان باهظة دفعها الحزب في قياداته وقاعدته ومعه الجيش والشعب وكل لبنان.
مع ذلك فقد نجحت المقاومة في صد تقدم الغزو البري الإسرائيلي إلى العمق وهو ما دفع بالعدو إلى أن يكتفي بدخول بضعة كيلومترات ادعى أنه استطاع أن يدمر فيها البنى التحية والأنفاق التابعة لحزب لله بعد أن كانت تشكل خطراً على أمن سكان الشمال. كما نجحت المقاومة في ضرب المدن الإسرائيلية ولا سيما حيفا والعاصمة تل أبيب بشكل متكرر ومتصاعد وإن كان هناك عدم تناسب في الأضرار الواقعة بين الطرفين، وهذا أمر محسوم بسبب قدرات سلاح الجو الإسرائيلي والدعم الأميركي المفتوح والمطلق طوال فترة الحرب. والمقاومة اليوم مطالبة أكثر من أي وقت مضى في العمل مع الدولة والجيش على بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها، وإعادة انتظام العمل ضمن المؤسسات الدستورية بدءاً من انتخاب رئيس الجمهورية في الموعد المحدد من قبل الرئيس نبيه بري في التاسع من كانون الثاني ٢٠٢٥ والعمل بموجبات الدستور واتفاق الطائف، وإعادة علاقات لبنان المميزة مع كل الدول الصديقة وخاصة مع الدول العربية إلى سابق عهدها من الود والاحترام، وتحقيق الإنجازات في الاقتصاد والأمن وفي إعادة البناء والاستقرار في كل بقعة من أرض لبنان، وهذا هو النصر الذي سيفرح به كل اللبنانيون.
إسرائيل المهزومة في ٧ اكتوبر وإنجازات عسكرية دون النصر
الحديث هنا عن إسرائيل الدولة والكيان المهزوم في يوم السابع من اكتوبر ٢٠٢٣، وليس فقط عن رجالات الدولة أو رئيسها إسحاق هرتسوغ الذي أقر بأن إنجازات إسرائيل العسكرية لا تلغي الفشل بعدم استعادة الرهائن، ولا عن حكومتها ورئيسها بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعها المقال يوآف غالانت والحالي يسرائيل كاتس، ووزرائها الأشد تطرفاً بن غفير وسموتريتش. وليس فقط عن جيشها واستخباراتها وأمنها وشعبها المستورد. أتحدث عن إسرائيل الفكرة والهدف بحد ذاته، والتي يبدو أنها تلقّت صفعة أبديّة ولو قبل أوانها وفي غير لحظتها التاريخية المناسبة، إسرائيل اليهودية، وإسرائيل الغرب، وإسرائيل الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا.
في ميزان الأهداف المعلنة لعملية السيوف الحديدية في الأراضي الفلسطينية، ما تملكه إسرائيل من آلة القتل الوحشي والدمار الهائل، والحرب الهمجية والبربرية التي شنّتها على شعب أعزل باستثناء مقاومة لا تقارن قواها وأعتدتها بحجم وقوة ترسانة العدو الفائقة بدعم ومشاركة الولايات المتحدة الأميركية ورئيسها الصهيوني جو بايدن، كل ذلك لم يمنح إسرائيل نصراً كاملاً على حماس بالرغم من نجاحها في القضاء على كثير من قادتها السياسيين والعسكريين وفي مقدمتهم رئيس الحركة (الشهيد) اسماعيل هنية، وقائد طوفان الأقصى (الشهيد) يحيى السنوار رئيس حركة حماس في غزة ورئيسها بعد اغتيال هنيّة أثناء تواجده في طهران. ولا يزال العدو الإسرائيلي عاجزاً عن تحرير الأسرى بالقوة بعد سنة وشهرين من القتال، فيما تتزايد الضغوط الداخلية والخارجية على نتنياهو لإجراء صفقة التبادل بعد اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان. أما النصر الذي ينتظره الفلسطينيون بعد كل هذه المأساة فهو لا يتوقف عند وقف إطلاق النار وإبرام صفقة التبادل، بل يتعداه إلى تجاوز الفرقة بين أبناء الشعب الفلسطيني والاعتصام بحبل لله جميعاً لتحقيق السلام والأمن لهذا الشعب في أرضه وإعلان دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وإنه لمسار طويل وطريق صعب، ولا يزال المشهد في الشرق الأوسط الجديد يعلوه الدخان الأسود.