شرح أحد مواطني جيبوتي لصديقي خاصيّة بلده السياسية، فمنذ استقلال هذه الدولة العربيّة الصغيرة في القرن الأفريقي عن فرنسا عام 1977، هناك توازن سياسي يحكم المكونات الإثنيّة الثلاث: الأثيوبيّة، الصوماليّة واليمنيّة. فرئيس البلاد، قائد الجيش وحاكم المصرف المركزي من أصل صومالي و… تدخّل صديقي واستكمل الكلام عنه «ومدير عام الأمن العام أيضاً من أصل صومالي»، فنظر إليه شريكه هذا مستفسراً عن كيفيّة معرفته بذلك، ليردّ عليه صديقي جورج مبتسماً بأن الوضع السياسي لجيبوتي مطابق للوضع السياسي اللبناني مع تغيير بسيط في التعابير. فالنظام السياسي لكلا البلدين أسّسه الإنتداب الفرنسي، والفارق بينهما في من تم اختياره بحسب مكونات البلد لتولّي إدارة لعبة الدولة المُنتَدِبَة. «الطائفيّة السياسيّة في لبنان»، «الإثنيّة السياسيّة في جيبوتي» لترتبط كلّ منهما بالثقافة والمصالح الفرنسيّة وتعمل وفق قواعدها. لنجد أنفسنا بعد ذلك أمام نمط وصايّة متطابق في كل المستعمرات، ولكنه يختلف جذرياً عن ما هو معمول به في الداخل الفرنسي، أي بعيد عن المقاييس القيَميّة، مصالح الشعب وتتجاهل معايير العدالة والإنصاف المطلوبة لتحقيق مشروع الدولة الحقيقيّة، ليلغي بذلك أسس بناء الدول الحديثة المطبقة في فرنسا، كندا، سويسرا وغيرها من الدول الديمقراطيّة المتحضّرة التي تكلمت بإسمها المارونيّة السياسيّة في لبنان والصوماليّة السياسيّة في جيبوتي والقبليّة السياسيّة في رواندا…
إذاً لا علاقة لعنوان الطائفيّة السياسيّة بالمعتقدات والقِيَم الطائفيّة أو الدينيّة التي نعرفها بل تتعارض معها. تم استبدال القيم بمستوياتها الإنسانيّة والدينيّة والإجتماعيّة بعصبيّة ساديّة تُطلق يد طبقة سياسيّة متحكمة لتسيطر مؤسسات دينيّة، مدنيّة، اقطاع متحالف معها من كل الطوائف. لتتجاوز عندها إمكانيات وسلطة هذه الطبقة قوة، اقتصاد وهيبة مؤسسات الدولة، كيف لا، وهي مرتبطة بالتبعيّة لدولة الإنتداب العظمى أو لمن يَخلفها بعد ذلك، كما هي مرتبطة بمصالح خاصة تنمو على حساب الدولة. بما يحقق سيطرة سياسيّة وماليّة وإعلاميّة وثقافية «للدولة الخارجيّة» على مجسّم «الدولة الطائفيّة» التابعة خدمة لإستمرار سيطرة احتكار سلطة «الوصاية المُشَغلة».
بالمختصر الطائفية، الإثنية السياسية وغيرها من العناوين هي عنوان الخضوع لسادية المرتبطين بثقافة غريبة عن قيم ومصالح الشعب. ليشعر معظم أفراد المجتمع بالدونيّة الثقافية أمامها، وليعتاد معظم أفراد المجتمع الخانع على مسلّمات التصرف وفق منطق التمييز بين المواطنين، فهناك مواطنون درجة أولى، ثانيّة وثالثة، والإلتزام بهذه المسلّمات هي أساس استقرار النظام والمحبة والتسامح والعيش المشترك!!!
في لعبة انتقال المصالح، يتم استبدال سلطة وصايا طائفة متعهدة بأخرى تتربص بالأولى وتتبع لدولة ثانيّة، كما حصل في حرب الإبادة بين الهوتو والتوتسي في رواندا عام 1994، وكما يحصل الآن في جيبوتي.
استدرك الرئيس فؤاد شهاب عام 1958 السقوط المبكر للمارونيّة السياسية وحاول استبدالها بمشروع دولة المؤسسات الدستوريّة الضامنة لكل المواطنين، ولكن جشع السياسيين وسعيهم لإعادة إحياء النمط البائد أوصل الى كارثة الحرب اللبنانيّة عام 1975. طبعاً استفادت دول خارجيّة من ضعف الكيان اللبناني لتصفيّة حساباتها على أراضيه… والإنتقال بعدها الى حكم محاصصة طائفيات سياسيّة على قياسات زعماء ميليشيات هذه الحرب المرتبطة بالخارج، وهو ما أسميناه الإنتقال «من تحت الدّلفة الى تحت المزراب»!!!
فالإنتقال من حكم نخبة تنتمي الى «الثقافة الفرنسيّة» بعناوين طائفيّة أفضل بكثير من حكم «بلطجة زعماء ميليشيات الحرب» وسفاهة أتباعهم المعاديّة لمفهوم الدولة وجشعهم الأعمى الذي لا يشبع من سرقة خيرات الدولة. نجح زعماء هذه الميليشيات بإبعاد رجال الدولة وفرضوا فيروس «الإتفاق الثلاثي» ليحلّ مكان «برنامج تطبيق الطائف والدستور» ولتحلّ «ميثاقيّة تقاسم حصصهم اللامتناهيّة» مكان مسلّمات «ميثاقية مقدمة الدستور».
بعد أن دمّر فيروس «النظام الطائفي التحاصصي» لميليشيات المال والسلاح كل مفاهيم ومقومات برنامج دولة المؤسسات الدستوريّة، أصبحت كل مؤسسات الدولة مجرد أدوات تمويل حكم هذه الميليشيات، من شركة الكهرباء، الاتصالات، الأشغال، الصناديق المتنوعة… وصولاً الى المصارف، شركات استيراد النفط ومرافئها. أي سيطرة بلطجة المسؤولين من أعلى هذه المستويات الى أقلّها من مولدات الكهرباء والإنترنت والساتيلات والخوات في الأزقة والشوارع. ليتطور هذا الفيروس بإستمرار بداية عبر ضم سلطة المال و«ليفلت الملق» بعد ضم الأفرقاء السياسيين المحسوبين على النظام القديم بعد العام 2005 ويستكمل بهم جوقة توسيع إطار هذا «البزنس» الفاسد!!!
أمسك جيوش سماسرة هذه الميليشيات بالدوائر العقاريّة، المالية، المرفأ، تسجيل السيارات، التعليم… مستفيدين من التعقيدات الإداريّة وتبعيّة الأزلام وشخصنة العمل فيها ليصبح التعطيل الكامل بديل تلقائي عن الفساد القائم.
المتاجرة بالمواد المدعومة المتنوعة من مشتقات نفطيّة، دواء، طحين، التهريب، الصيرفة وكل صغيرة وكبيرة هي من ضمن عدة «الشغل الطبيعيّة»… قتلت سلطة محاصصة طائفيات الميليشيات بعناوين الدين والحرمان والوطنيّة والمقاومة وشعارات القادة المؤسسين الدولة وضيّعت معالمها تماماً، كما أشعلت الطائفيّة السياسيّة الحرب الأهليّة لرفضها مبدأ الإنصاف بين الشعب بعناوين محاربة الفلسطيني وغيره ممن أدخلتهم ومكّنتهم من رقبة البلد.
بعد هذا التحليل نقول أنه من المهم في هذه المرحلة حسن استغلال فرص الأزمات والكوارث التي أوصلونا إليها، وآن أوان الخروج من دائرة مفاهيمهم الفاسدة التي تسببت بتدمير الدولة وتضييع معالمها. الحل ممكن عبر التخلّي عن كل شعوذات مفاهيمهم السائدة، والإنتقال من التبعيّة للمحاور المتناقضة التي تلغي كيانيتنا المشتركة الى وسطيّة تحقيق مشروع الدولة الدستوريّة الراعيّة دون أي اجتزاء، أي تطبيق الدستور وفق روحيّة مقدمته ووثيقة الوفاق الوطني بالكامل، من مجلس شيوخ، لا مركزية إدارية متوازنة ومتوازية لتحقيق التنميّة بعد إعادة النظر بالتقسيم الإداري، لتترافق مع خطة إنقاذيّة شاملة على المدى القريب، المتوسط والبعيد يتم تمويلها جزئياً من ثرواتهم وليس من جيوب الفقراء والمنهوبين.