Site icon IMLebanon

العقل الناقص!

لم يكتمل المشهد السوري الجديد بعد. عدّته ناقصة. وإطاره لا يزال مكسوراً: في جانب منه هناك الإنزال الروسي المفاجئ في صخبه وقوة نيرانه. وفي جانب آخر هناك ضجيج يتصاعد شيئاً فشيئاً لكنه لم يثبت أي فاعلية حتى الآن.

الوقت لا يزال مبكراً ربما (؟) وما يجري يقطع الأنفاس من شدة تطوراته وتسارعها والضرورة الطبيعية للحاق بها! لكن سياقه العام لا يختلف عن سياقات مماثلة مرّت على المنطقة في السنوات الماضية وراكمت في لحظات سريعة أحداثاً تأخذ في العادة أشواطاً طويلة من التاريخ كي تكتمل.

ومع ذلك، فإن السياسات المماثلة للإنزال الروسي تولّد بعض الانطباعات المستندة (دائماً) الى شيء حسّي وليس الى تمنيات وقراءات مبتسرة ومختصرة. ومنها، ان ما فعله ويفعله بوتين في سوريا يذكّر (في شكله الانقلابي المتواتر والسريع) بدخول صدام حسين الى الكويت وبالانقلاب الحوثي في اليمن.

الخيط الرابط بين تلك المحطات الثلاث هو صدورها عن عقل تبسيطي يفترض أصحابه أن القوة المفاجئة والضارية هي الجواب الوحيد المتوفر على أسئلة بالغة التعقيد.. والنمط التفكيري ذاك، واحد في خلاصاته وإن اختلفت تفاصيله، مثلما هو واحد في بناء قراراته بالاستناد إلى تبخيس احتمالات ردود الفعل عليها، أو بافتراض القدرة على فرض «أمر واقع» سيؤخذ به عاجلاً أو آجلاً! أو بافتراض العالم الخارجي مثيلاً لذلك الداخلي الخاص بأنظمة الطغاة وطريقتهم في الحكم والتحكّم.

دخل صدام حسين إلى الكويت وفي ظنّه حتى اللحظات الأخيرة، أنه محاها! وان الآخرين، دوليين وإقليميين ومحلّيين، لن يتمكنوا من صدّه! ونفّذ الإيرانيون انقلابهم اليمني بواسطة بني حوث وفي ظنهم أن السعوديين وأهل الخليج العربي لن يفعلوا شيئاً.. ولا يقاتلون! ولا قدرة لديهم على القتال.. الخ! وفي المحطّتين كانت النتيجة دمار الفاعل المرتكب!

بوتين في سوريا، يشبه في الشكل، صدام في الكويت وبني حوث وصاحبهم المخلوع علي عبدالله صالح في اليمن!

ولقائل أن يقول، إن المعطى الاستراتيجي في الكويت واليمن مختلف عنه في سوريا. والأولى جزء متين من منظومة الطاقة الدولية، والثانية باب مركزي لضمان خطوط سير تلك الطاقة! وأن سوريا في المقابل خارج ذلك القياس، ووضعها الجيوسياسي لا يؤهلها للتحوّل إلى مسرح جاذب لصراع مصالح دول كبرى!

جانب من هذا التشخيص صحيح لكنه لا يختصر كل المشهد. وهو، في كل حال، الجانب الذي سمح لمستر أوباما باعتماد سياسته النكبوية المعروفة! قبل أن «يقرّر» بوتين بنفسه، شيئاً آخر! ويُدخل الوضع برمّته، في خريطة أكبر من الجغرافية السورية، وأكبر من المعطى الخاص بمحاربة «الإرهاب»: بمجرد تحريك قواته خارج حدوده الروسية، صار الأمر بنداً حاراً في أجندة الآخرين.. الأميركيين والغربيين و»الناتو». وذلك أمرٌ مسبوق. حصل في أفغانستان، التي لا تملك شيئاً يؤثر في سيرورة المصالح الدولية الكبرى، لكنها رغم ذلك كانت المسرح الذي جرت فوق خشباته، آخر فصول المواجهة بين المعسكرين الغربي والشرقي، وتبيّن في النتيجة الأخيرة، أن تتمة سقوط كابول، كانت في سقوط حائط برلين، وما تلا ذلك من انهيارات كبرى!

قد يأخذ الأمر وقتاً، والكثير من الأسى والضنى والعذاب، لكن سيتبيّن للروس، مثلما سبق وتبيّن للإيرانيين، أن السوريين ليسوا أقل بأساً وشأناً من الأفغان.. وأن حسابات الطغاة ناقصة دائماً وحتماً، لأنها صادرة عن ذلك العقل التبسيطي، الذي يفترض أن الخارج مثل الداخل، لجهة غياب آليات المحاسبة وضمور رد الفعل على الطغيان والاستبداد..

وتلك خطيئة قاتلة، وليست خطأ عابراً!