IMLebanon

حزب العقل

 

جايل فؤاد بطرس القرن، الذي كان في لبنان قرن أشهر الولادات وأشهر الوفيات: لبنان الكبير، لبنان الاستقلال، لبنان الميثاق. ثم لبنان الحرب، سقوط الميثاق، لبنان الضيّق. أو لبنان المضائق.

كان صورة عن لبنان الذي وُلد فيه، أو ولد فيه. البسيط الذي يجتهد فيصير بورجوازياً. البورجوازي الذي يضع نجاحه في نجاح بلده، فيخوض السياسة بصفتها بطاقة وطنية شرعيّة، لا بطاقة بطانة وفسق وطني واخلاقي.

في هذا السياق، فؤاد بطرس نهاية الحقبة الشجاعة في صفائها. لا الفساد اغراه لحظة ولا الحرب أخافته مرة. عندما فُجّر موكبه، أكمل الطريق إلى بيته، لا إلى المرفأ. وبيت فؤاد بطرس كان مثله، أنيقاً، هادئاً، مرتباً، وجميع الوانه هادئة. لا فخفخة ولا ابتذال ولا فقاعات حداثة النعمة.

انتسب فؤاد بطرس إلى مدرسة فؤاد شهاب: الفكر الهندسي الواضح والبسيط وثابت الزوايا. لا فلسفات ولا تعقيدات ولا جمل مستعارة من سوق العِتق الفكرية: البحث عن دولة قابلة للتطور في وطن قابل للحياة. عدالة اجتماعية وتوازن سياسي في الداخل والخارج. الحرص على عروبة لبنان من غير أن يعني ذلك الغرق في ضياع العرب وبراكين الحقد وأعاصير الصراع وتفاسير الجهلاء لنعمة العبودية والسجون.

في هذا المعنى، كان فؤاد بطرس كثيراً على اللبنانيين. مثلما اشترى شارل مالك مقعده النيابي ومثلما خسره غسان تويني ومثلما فقده جان عزيز كان هناك عدد من الوجوه المتألقة، في قلب السياسة وخارجها تماماً. رجال بلا احزاب ولا حزبيات ولا “عزوة”، يدخلون الحكومة أو البرلمان في ظروف استثنائية، لكنهم لا يلبثون أن يعودوا الى دائرة الصفة الأولى: نبلاء بلا عمل، ونزهاء لا مكان لهم في طاحونة الفساد الرداح.

مع نهاية عهد الياس سركيس لم يعد لفؤاد بطرس مكان. واضح انه لا يحتمل تلك المجموعة البورجوازية التي لا تطاق، هي ودساتيرها وقوانينها والاصرار على ما يقوله “الكتّاب”. البير مخيبر وريمون اده وحسن الرفاعي ورشيد كرامي وسليم الحص وسائر الخجولين بالرخويات اللبنانية.

فؤاد بطرس كان بينهم الأقل مشاكسة وانغماساً في الشؤون التي لا علاقة مباشرة له بها. “الخواجا” القابع في حي السراسقة، يراقب البلد ولا يراقب الناس لئلا يموت غماً. كانت له اراء واضحة وحاسمة ولكن شرط ألا تخرج من البيت. كان له كلام واضح وتعابير دقيقة في وصف، أو تسمية، الانتهازيين والباعة والذين بلا أي ضابط أخلاقي أو وطني أو ضميري. لكنه لم يكن يشأ أن ينزل أي درجة في سلم الانحطاط.

وعلى رغم عزلته ووحدته وانزوائه السياسي، كان مطلعاً على الدوام، على وقائع السياسة وآراء الأمم في أحوال اللبنانيين. وكان يخيفه المتهورون والفائضون بانفسهم والمبالغون في إهانة الوكالة الشعبية، ولكن كان يخيفه أكثر غياب الميزان الشعبي وتحول اللبنانيين وفقدانهم الحاسة التي كانت سبب وجودهم، الحرية.

مضى في محاولات كثيرة كان يعرف فشلها سلفاً. منها مشروع قانون الانتخاب، مع زياد بارود، الذي كان يرى فيه تمثيلاً لشباب المستقبل. ومنها العلاقة مع سوريا، التي أراد أن يعطيها نوعاً من الخفر. لكنه كان في كل مرة يكتشف ان اللبنانيين لم يبقوا شيئاً. وكان آخر لقاء له والرئيس السوري مطولاً. وبعدما انصرف ووصل الباب، استوقفه بشار الأسد ليقول له: دعني أضف إلى كل ما تداولناه، أنك اللبناني الوحيد الذي جاء إلى هذا المكان ولم يطلب شيئاً.

أدرك أن ذلك الكلام كان خاتمة المسعى. فهو وحيد من هذا الجانب، أو في هذا الفريق. وسوف يبدو عدواً لهم إذا لم يغيّر أو يتوقف. وفعل ما فعله دائماً. توقّف.

الطبقة، أو الفئة، التي كان يمثلها فؤاد بطرس، كانت مجموعة تدرك وعورة الطريق، لكنها كانت تحاول أيضاً أن تضبط الانزلاق الجماعي نحو الحريق والركام. كان يعرف تماماً مدى التزامه القانون، واحتقار اللبنانيين للقوانين، ونظرة اللبنانيين العدائية والاحتقارية . لكنه كان يؤمن ايضاً بأن في لبنان رجالاً صامدين في هذا الطريق، مهما تكاثرت الصخور عليها. وكان يتحدث دائماً عن رجال أمثال حسين الحسيني وسليم الحص، على رغم أن الرئيس الحص اعرب غير مرة عن تضايقه من تأثير بطرس على الياس سركيس. وكان يقول دوماً، وفي تذمّر، إنه لم يستطع أن يقابل الرئيس سركيس مرة واحدة إلا وكان فؤاد بطرس حاضراً.

ولم يرَ بطرس فيها جرحاً بروتوكولياً. فلم يكن المقصود اطلاقاً الاستهانة بمكانة رئيس الوزراء، وخصوصاً الحص، الذي اعتبره سركيس شريكاً في مواجهة الطبقة السياسية، وإنما كان يرى في حضور بطرس في تلك الظروف إفادة للرئيسين معاً. فقد كان يملك رؤية إضافية، أو “بعداً ثالثاً”، للاوضاع في ظل الحرب واليتم الدولي والازدراء العربي.

جايل فؤاد بطرس القرن. وانتظر كي يغيب مع مئوية سايكس – بيكو التي خلالها أيضاً عرف العرب الاستقلال والهزيمة، النكبة والنكسة، الحريات والانقلابات. والحقيقة أن اتفاقات سايكس وبيكو انتهت مع نهاية حرب السويس، التي انتهت بخروج فرنسا وبريطانيا من المشرق كدولتين عظميين. ففي هذه الأثناء ايضاً، ظهرت نتيجة الحرب العالمية الثانية قوّتان كبريان إحداهما رأسمالية ضخمة هي الولايات المتحدة، والثانية اشتراكية شيوعية محدودة الثروة هي الاتحاد السوفياتي. وقد حاولت القوتان الحلول محل الاستعمار المتراجع في كل مكان، من أوروبا إلى الشرق الاوسط، إلى آسيا، إلى أفريقيا، إلى أميركا اللاتينية. وبسبب التزام أميركا وجود اسرائيل منذ ولادتها، اختار عرب دول المواجهة الاتحاد السوفياتي شريكاً سياسياً لهم. كان ذلك الخيار الوحيد، ولو لم يكن الأفضل. وقد أُرفق بخطوات اشتراكية متعجّلة وغير ملائمة لأوضاع المنطقة وشعوبها، كالتأميم والحراسة والغاء الحريات وتجفيف حركة التعليم ومستوياته، فانتقلت وزارة المعارف من أمثال طه حسين إلى الضباط. وألغيت تماماً طبقات الصناعيين والتجار والمزارعين والمثقفين، وفتحت أمام هؤلاء جميعاً أبواب السجن، أو المنفى.

وفي سوريا والعراق ومصر، ولاحقاً ليبيا واليمن والجزائر، أزيلت البورجوازية الوطنية كليّاً، وحلّت محلها طبقة من الأوليغارشية النفعية المحدودة الانتاج والآفاق، التي لا كفاية أو ميزة لها سوى ميزة الخضوع للنظام. وعلى رغم التحاق لبنان اعلامياً بالموجة الطاغية، غير أنه أبقى الباب مفتوحاً لمشاركة قوى الانتاج، حتى في العمل السياسي. طبعاً طغت في الوقت نفسه المحسوبية ودوافع الفساد، واستُبدل الاقطاع التجاري باقطاع جديد قائم على المشاركة هذه المرة مع من عُرف بالانظمة الاشتراكية، أو مع سميّ بهذا الاسم. وأصبحت السياسة هي المصدر المالي الأول من خلال التحالفات السريَة والمعلنة، مع المعسكرات القائمة في المنطقة وفي العالم.

يُشهد لفؤاد بطرس، والجماعة التي عايشت هذا القرن، على طريقته وبالحدود الدنيا، في النزاهة والعدل والشعور الوطني، بأنهم لم يتخلّوا، لا في التهديد ولا في الاغراء، عن سمعة الضمير ومستوياته. لقد آمنوا بالنظام وبالميثاق وبمعاني الاستقلال على أنها ضمانة جوهرية لبقاء لبنان. وأدركوا بوعيهم وثقافتهم السياسية والتاريخية أن البديل الآخر هو الحرب التي لا نهاية لها. وقد رحل فؤاد بطرس قبل أن يحقق شيئاً من حلمه في ذلك. فقد استمرت الأوضاع في التدهور والمستويات في الانهيار، وبقي الزعيق هو الصوت الوحيد المسموع. كلما غاب رجل في مواصفاته نقول إن مرحلة قد انطوت معه. وكم ينطبق هذا القول عليه. فقد حرص على أن يعيش حتى يكتب خاتمتها بنفسه.