مع انّ قضية الوزير جورج قرداحي ليست سوى الرأس الظاهر لجبل الجليد في الأزمة بين السعودية ولبنان، الا ان هناك في بيروت من لا يزال يقنع نفسه بأن استقالة الرجل يمكن أن تؤدي إلى تذويب جزء من هذا الجليد المتراكم واعادة ضَخ الحرارة في العلاقات الديبلوماسية والاقتصادية مع الخليج.
إنه أشبه بعزف منفرد، او حب من طرف واحد وسط أزمة معقدة لا تُختصر في شخص وبالتالي لا تستطيع المبادرات الفردية لوحدها ان تعالجها، مهما صفت النيات، بل هي تحتاج إلى حل سياسي يبدو أنه مرتبط باعتبارات اقليمية اكثر منها محلية.
وعلى رغم ان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي نفسه يدرك هذه الحقيقة ويعرف ان مشكلة الرياض الأصلية هي مع حكومته وليست مع وزير فيها فقط، غير انه يواصل محاولات «تبرئة ذمته» عبر الضغط على قرداحي وحلفائه للأخذ بخيار الاستقالة كضريبة سياسية مضافة لا بد من دفعها لشراء الوقت والتهدئة.
وقد استعان ميقاتي بصديقه رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية لإقناعه بوجوب دفع قرداحي الى الاستقالة، فاستقبله في الـ»بلاتينيوم» وشرح له حيثيات موقفه، متمنياً عليه التدخل لدى وزير الإعلام ليتخذ القرار المناسب، لكن فرنجية أبلغ اليه انه ليس في وارد الضغط على قرداحي لِحضّه على الاستقالة وانه لا يزال عند رأيه الذي أعلنه بعد لقائه البطريرك الماروني بشارة الراعي، لافتاً الى ان الرجل ظُلم «وانا الى جانبه في اي موقف يعتمده، انما لن اطلب منه أن يستقيل لأنني لا أقبل أن يلحق الظلم بأحد فكيف بصديق عزيز مثله».
ثم اضاف فرنجية مخاطباً ميقاتي: «على كلٍ، اذا اردت دولة الرئيس ان تحاول معه، لا بأس، اجتمع به وجرّب ان تقنعه بطرحك، ربما الرجل تعبان وبدو يستقيل.. هذا قراره في نهاية المطاف».
وعلى هذا الأساس اتصل ميقاتي بوزير الإعلام ودعاه الى لقاء في منزله، هو الأول من نوعه منذ ان انفجر برميل بارود الازمة مع السعودية.
كان اللقاء ودياً ودافئاً في جانبه الشخصي على رغم من التباين بين الرجلين في مقاربة الطريقة التي يجب اعتمادها لاحتواء الغضب السعودي والخليجي، مع الاشارة الى ان وزير الإعلام ابلغ الى قريبين منه ان لديه «معزّة» خاصة لميقاتي، ويقدّر ما يتحلى به من ذكاء ودماثة أخلاق.
أفاض ميقاتي في شرح رأيه، مشدداً على أن لا مفر من استقالة قرداحي لوقف التصعيد عند السقف الذي وصل اليه وللحؤول دون إمكان اتخاذ إجراءات قاسية ضد اللبنانيين العاملين في المملكة والخليج او ضد بعضهم.
وبعدما استمع قرداحي الى هواجس رئيس الحكومة، قال له انه يعرف اهل الخليج جيدا، «فهم أصحاب اخلاق وشهامة، ولا أتوقع ان يذهبوا في رد فعلهم الى هذا الحد، خصوصاً ان «المسألة ما بدها هلقد» ولا يوجد اساسا عداء بيننا».
لكن ميقاتي بدا مصرّاً على التمسك بوجهة نظره، منطلقا من ان استقالة وزير الإعلام هي مدخل إلزامي للبدء في معالجة الخلاف مع الرياض، بمعزل عما اذا كانت كافية في حد ذاتها ام لا لإعادة العلاقة الى مرحلة ما قبل سحب السفراء واتخاذ التدابير العقابية.
وهنا، علّق قرداحي قائلا: «أخشى انه في حال انسحبت من المسرح وعدت الى قواعدي ان يطبق عليك المثل الشائع: «أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض». وأضاف: «تعلم دولة الرئيس ان المقصود، في الحقيقة، هو انت وليس انا، والمطلوب التخلص من الحكومة برمتها وليس مني فقط. أما بالنسبة إلي فأنا غير متمسك بالمنصب بتاتاً، انما الاستقالة يجب أن تكون مدروسة حتى تأتي بنتيجة».
بعد أخذ ورد، افترق الرجلان من دون التفاهم، لكنهما اتفقا على استمرار التشاور بينهما ومع الآخرين سعياً الى بلورة مخرج مقبول.
ويؤكد قرداحي لـ»الجمهورية» انفتاحه على «اي حلول تحقق المصلحة الوطنية»، مؤكدا انه مستعد لترك وزارة الاعلام فورا اذا كان من شأن ذلك أن يؤدي إلى انفراج في العلاقات اللبنانية – الخليجية، «ولكن الجميع أصبحوا يعلمون ان المشكلة الراهنة تتجاوزني بكثير وتتعلق بالموقف السعودي من دور حزب الله في لبنان والاقليم، كما صرحت الرياض نفسها اكثر من مرة، أما ما يحول دون اجتماع مجلس الوزراء فهو بالدرجة الأولى الانقسام حول القاضي طارق البيطار، إضافة إلى ان الحكومة تواجه معي ومن دوني تحديات صعبة جدا على المستويات المعيشية والاجتماعية والاقتصادية والمالية، وما الارتفاع الكبير في اسعار الأدوية سوى عيّنة من تلك التحديات الحالية والمتوقعة، وعليه تصبح قصتي مجرد تفصيل بسيط ضمن هذه التعقيدات». ويضيف: «الرئيس ميقاتي يتصرف في مسألة الازمة مع المملكة على قاعدة «الباب اللي بيجيك منّو ريح سدو واستريح»، الا ان ما أتخوّف منه هو ان استقالتي لن تدعه يرتاح، لأن هناك اعتراضاً على اصل الحكومة المتهمة بأنها تخضع الى نفوذ الحزب وعلى مبدأ ترؤس ميقاتي لها».
ويؤكد قرداحي ان خيار إقالته لا يجب أن يُطرح «لأنني غير متمسك بموقعي، وانا ادعو الى ان تُناقش الحكومة مجتمعة الخيار الذي ينبغي اتباعه، فإذا وجدتُ ان غالبية زملائي الوزراء يريدون استقالتي، سأقدمها فورا وبطيبة خاطر، خصوصا انني اكتشفت ان العمل الوزاري في هذه الظروف الصعبة ووسط إفلاس الدولة هو مضنٍ وصعب، بحيث أشعر احيانا ان ليس هناك ما اعطيه لموظفي وزارة الاعلام الا المواساة، في حين ان بينهم من يتقاضى الحد الأدنى من الرواتب وبعضهم لم يقبض معاشه منذ نحو أربعة أشهر، الى جانب ان طموحي بتطوير التلفزيون والاذاعة الرسميين يواجه عقدة الشح المادي، ولذا فإن بقائي وليس رحيلي هو التضحية».
ويلفت قرداحي الى انه «ليس هناك أفضل وأسهل بالنسبة إلي من ان اقدم استقالتي واقفز من السفينة المهددة بالغرق، لكنني لا أحسبها بهذه الطريقة بعدما باتت المسألة ترتبط في جانب منها بالكرامة والسيادة، ومع ذلك اشدد على انني لن أكون حجر عثرة أمام اي حل مقبول وعادل بالحد الأدنى، وانا أتفهم هواجس اللبنانيين، سواء المقيمين او المغتربين، ولا أقبل ان أشكل تهديداً لمصالحهم».
ويشيد قرداحي بسلوك حلفائه الذين هم كـ»الجبال». كذلك لا يفوته التنويه بموقف رئيس الجمهورية ميشال عون الذي «رفض التجاوب مع طلبات من الداخل والخارج للضغط عليّ من أجل دفعي الى الاستقالة».