لو لم نكن في ظرف استثنائي لقلنا لوزير التربية: لا تضيّع وقتك ووقت اللبنانيين الثمين. أنت أبرعُ بالتأكيد في التعلُّم ومهنة التعليم.
رغم صدق الدكتور طارق المجذوب، فإن اطلالته الخميس على “ام.تي.في” قصَّرت عن اقناع المشاهدين المختصين أو المطلعين بأنّ المرحلة الدقيقة التي يمر بها العام الدراسي، ستعالج بما يحفظ مستقبل الطلاب ومصلحة المدارس والمعلمين. ولم يوحِ معاليه بأن لديه رؤية شاملة لمستقبل التعليم تتجاوز محاولة “التسكيج”.
ومع تقدير هاجس الوزير في أن يحافظ أولاً على حياة الطلاب والتلاميذ وإصراره على ترك ذِكر طيب لدى مغادرته قصر الاونيسكو، فإن الوزير لا يدرك على ما يبدو ان مهمته لا تقتصر على تجريب التعليم عن بُعد، باعتباره “أحسن من بلاش” في زمن الحجر المنزلي.
سيكون التعليم الرسمي من أكبر الهواجس لدى اللبنانيين بعد انتهاء “أزمة كورونا”. فانخفاض المداخيل سيضغط على مدارس الدولة وعلى جامعتها بأعداد غير مسبوقة. والدولة نفسها يجب ان تضع الملف التربوي، مدارسَ وجامعة لبنانية، في صدر أولوياتها لأسباب وطنية قبل أي اعتبار مادي.
ستحل المدارس الخاصة مشاكلها بالتأكيد، لأن ما سينجو منها من الأزمة هو الأقوى مادياً والمعتمد على الأهل المقتدرين. وهي ستتمكن بالطبع من تطوير أساليب التعليم الرقمي. غير ان ما يقلق مجتمعنا هو كيفية الارتقاء بالتعليم الرسمي، ليس ليساوي نوعية التعليم الخاص فحسب، بل ليتأقلم مع مستوى التعلُّم العالمي فلا تبقى مُخرَجاته ذات تقدير قليل وكفاءات خريجيه في سوق العمل مرآة لتاريخ من التقصير.
إنها ورشة كبرى وثورية كان يجب ان يضطلع بها أي وزير تربية لا تتركز هواجسه على الاستعراض التلفزيوني وإرضاء فريقه السياسي. وأزمة كورونا، التي فرضت التعلم عن بُعد، مناسبة تاريخية يجب اقتناصها لاطلاق انقلاب كامل في التعليم الرسمي.
كلنا يعي ضعف البنية التحتية التقنية ومشاكل الانترنت، وتفاوت قدرات التلاميذ المادية للحصول على أدوات التعلُّم في المدن والمناطق. وسيثبت للوزير ان ما يقوم به حالياً من تعليم عن بُعد ناقص وغير متماسك ولا متوائم مع حاجات الطلاب وموجبات المناهج. ذلك ان للتعليم الرقمي أصولاً حديثة في التدريس وفي وسائل الايضاح والتفاعل، وأي اختصاصي في علوم التربية وطرائق التدريس قادر على شرح ذلك للوزير.
تحتاج وزارة التربية يا معالي الوزير الى هيكلة شاملة طال انتظارها وإلى شجاعة الاستغناء عن جزء من الطاقم التعليمي، وإخضاع مَن يبقى الى دورات جدية مكثفة على ايدي اختصاصيين، مثلما يجب تقليص عدد المدارس في المحافظات والعودة الى فكرة تشبه “مشروع تجميع المدارس”، الذي قدمه وزير التربية الراحل نجيب أبو حيدر في “حكومة الشباب” مطلع السبعينات، مع إضافة دور اللامركزية وإدخال البلديات في المسؤولية.
لا تعليم فاعلاً عن بُعد ممكنٌ يا معالي الوزير في المراحل قبل الجامعية في لبنان. ولا قدرة للدولة على تعليم متفاعل. لذلك ربما حان وقت التفكير بتدريس نموذجي جاهز للتحميل (download) على مختلف المستويات من غير الوقوع في عثرات الانترنت. فيبقى الوجود المادي للمدرسة والصف والأستاذ المدرَّب فيما تتغير المناهج وطريقة التلقي ومفهوم “الكتاب المدرسي” ومعايير التقييم.
أفكار كثيرة قد تجدها معاليك لدى الاختصاصيين عن كيفية ردم الهوة بين التعليم الرسمي والخاص. أما الأكيد فهو ان ذلك ممكن وغير مكلف إذا وجدت إرادة حقيقية صلبة وعقل نيّر وقليل من التدبير، بعيداً من استغلال الدولة ووزارة التربية والجامعة بالنهب او التوظيف الزبائني.
تشفع للوزير المجذوب نواياه السليمة ووراثته حرية الضمير، وأنه ليس بيدقاً لدى معلمه أو مشعوذاً “مستَصرِفاً” برتبة وزير. فعسى ان يحالفه الحظ بالتغيير لنكون أول المصفّقين.