بغضّ النّظر عن مدى ارتباط الحكومة الجديدة بالمنظومة المشكو منها، وعن الوقت القصير لعمرها المفترض ونوعيّة شخصياتها… هناك ملفات بيئية لا تقلّ أهمية عن الملفات الاقتصادية والمعيشية، لا بدّ من المراهنة على ضرورة معالجتها، ومشاكل بعضها غير ملموس، ويعتبر أكثر خطورة من النواحي البيئية والاقتصادية والحياتية.
أمام وزير البيئة الجديد ناصر ياسين مهمّات بالغة التّعقيد، وهو صاحب تجارب كثيرة في «رصد» الأزمات. إلّا أن رصد المشكلات ومتابعتها شيء، وإيجاد حلول لها ضمن ظروف صعبة وحال انهيار شامل مع شبكات من المصالح والمافيات المتداخلة، أمر آخر.
قبل الانهيار الشامل، كانت المهمة المفترضة لوزير البيئة أن يكون حامياً للبيئة، معرقلاً للمشاريع المتجاوزة لأي نظام، ومخرّباً للصفقات المستنزفة للموارد والملوّثة للبيئة. وهي مهمّة لم يتصدّ أحد لها، ما زاد الحلول تعقيداً مع الوقت. الآن، بعد مرحلة الانهيار الشامل، لم يعد مطلوباً حتى إضاءة شمعة في الظلام (الذي صنعته الحكومات والوزراء والمدراء العامون)، بل بات المطلوب «تمجيد العتمة». يعني ذلك، منح الأولوية في السياسات البيئية للتحفّظ والتخفيف والتدوير بدل تشجيع الاستثمار في ما بقي من موارد، ومنح الأولوية لحماية ما بقي على جلب المنفعة والمساعدات الخارجية والداخلية.
لعلّ المشكلة الأساسية التي سيواجهها الوزير الجديد داخلية، أي داخل الوزارة نفسها التي يُفترض أن تشكّل فريق عمل متكاملاً ومنسجماً. وتتمثل هذه المشكلة «التاريخية» في العلاقة غير السّوية بين المدير العام للوزارة وغالبية العاملين فيها وتغليب الممارسات الكيديّة، ما جعل الوزارة غير منتجة وغير ذات جدوى. إضافةً إلى انعدام الرؤية الإستراتيجية لدى الإدارة والوزراء المتعاقبين. وتُضاف إلى ذلك الآن مشكلة أخطر، تتمثّل في ترك أكثر من عشرين موظفاً ومتعاقداً الوزارة بسبب الأزمتين، المالية و«التاريخية». لذلك، أمام الوزير الجديد مهمة إصلاحية شبه مستحيلة تفترض الاستعانة بفريق استشاري من خارج الوزارة للتعويض عن النقص المستجدّ فيها.
بعيداً عن الشؤون «الداخلية»، ومن ضمن الملفات أمام ياسين، قد تبدو مشكلة النفايات الأكثر إلحاحاً، بسبب الكلفة العالية للحلول الطارئة على كل المستويات. فالقدرة الاستيعابية لمطمر الجديدة بعد توسعته (40 ألف متر)، تنتهي آخر السنة أو في شباط المقبل على أبعد تقدير، ويبلغ مطمر كوستابرافا قدرته الاستيعابية القصوى بعد عام تقريباً، في وقت لا تزال المعامل في الكرنتينا والكورال والعمروسية متوقّفة عن العمل، ويقتصر عمل هذا القطاع حالياً على الجمع والطمر، فيما توقف العمل في مطمر طرابلس بسبب الكلفة العالية بالدولار لطبقة الحماية التي تمنع تسرب العصارة… إلخ. كل هذا يعني أن هذا الملف سيكون ضاغطاً.
أما ملفات تلوث الهواء وغيره من عناصر الطبيعة فليست أقل إلحاحاً، لا سيما مع ربطها بملف التغير المناخي الذي لمسنا معالمه «الحارقة» هذا الصيف ونحن على أبواب معالمه «الغارقة» في المستقبل القريب. كما لا يخفى كم خلّف ملفات مثل المقالع والكسارات والمرامل وشركات الترابة من مصالح ومن تهديدات للبيئة والاقتصاد والصحة العامة، حاذر الوزير السابق البتّ بها طوال فترة ولايته، إضافة إلى ملفات كثيرة مثل حماية التنوّع البيولوجي، إرث وحق الأجيال القادمة أيضاً، الذي طالما بيع بالجملة والمفرّق في أسواق الطوائف والمذاهب… ولمصلحة تجّارها.
في الخلاصة، المدخل الأساسي الآن للخروج من الأزمات وحالات الطوارئ، أو على الأقل لإدارة خطط الطوارئ ضمن الأصول والقواعد وضمن رؤية شاملة واستراتيجية، لا باستنسابية وعلى الطلب السياسي، هو في تأسيس فريق عمل متعدّد الاختصاصات والتجارب، بعيد عن المصالح، يحدّد استراتيجية شاملة ودائمة، يربط فيها بين كل القضايا في وحدة مسار ومصير، تماماً كما هي الحال مع الطبيعة في تعدّديتها والتي يربط بين عناصرها وأنواعها خيط واحد.