سجّل سعر صرف الليرة مقابل الدولار، لدى الصرافين أمس، 2000 ليرة للشراء و2050 ليرة للمبيع. سعر الشراء حدّدته نقابة الصرافين في بيان صدر أول من أمس من دون أن تحدّد سعر المبيع أو أي إشارة إلى توفير الكميات اللازمة للسوق. والبيان جاء بعد بضعة أيام على اجتماع النقابة بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة والتنسيق معه حول السعر المستهدف. وبأقل من 24 ساعة، ظهرت نتيجة اللقاء: تحوّلت ازدواجية سعر الصرف إلى ثلاثية على النحو الآتي: سعر الصرف المدعوم بين مصرف لبنان والمصارف، سعر الصرف في السوق الموازية بين الصرافين والمواطنين والذي يتحكّم به الصرافون بما يتناسب مع عمليات المضاربة لجهة التسعير والكميات المتوافرة، سعر الصرف في السوق السوداء بأسعار اصطناعية وكميات استنسابية.
هذا التطوّر في السوق، كان ضروريا جداً لتفسير تصريحات وزير المال غازي وزني. فهو أثار موجة ذعر في السوق عندما أشار إلى أن «العودة إلى سعر الـ1500 ليرة بات أمراً مستحيلاً». واختار وزني، في تصريح آخر، أن يحدّد خياراته المالية والاقتصادية لمعالجة الأزمة: «الحكومة بحاجة إلى مساعدة خارجية». ولكي لا يفسّر هذا التصريح بشكل خاطئ، فإن مستشاره مروان مخايل، الذي عيّن في هذا الموقع بطلب من أحد كبار مديري صندوق النقد الدولي، أعدّ ورقة عمل نُشرت أخيراً بعنوان «خريطة الطريق للتعافي»، وجاء فيها: «من أجل تسريع التعافي، من المستحسن أن تتوصل الحكومة بأسرع وقت ممكن إلى اتفاق صندوق النقدي الدولي يتضمن اقتراض 3 مليارات دولار على ثلاث سنوات لاستقطاب 10 مليارات دولار إضافية من الدول المقرضة (المسماة مانحة)… وعلى المواطنين التضحية على المدى القصير بينما تتحسّن الخدمات العامة على المدى المتوسط». ولتفصيل آلية التحسّن المفترضة، استخدم مخايل الكلمة السحرية «الخصخصة».
إذاً، على لبنان التسوّل مجدداً واستبدال الاستدانة القديمة باستدانة جديدة إلى جانب عملية إعادة هيكلة للدين العام قد لا تكفي ليكون الدين مستداماً، فتعمد الدولة إلى بيع اصولها وأملاكها لإيفاء أموال الدائنين. إنها الوصفة الكلاسيكية نفسها سواء روّج لها وزني ومخايل وعشرات غيرهما، أو وردت في تقارير صندوق النقد الدولي. هي الوصفة التي تتضمن تحسين المؤشرات لإعادة ضخّ الحياة في نموذج اقتصادي يحتضر من الأولى دفنه ودفن كل ما يمت له بصلة.
واللافت أن تيار اللجوء إلى صندوق النقد الدولي بدأ يتنامى في الأسابيع الأخيرة. أبرزهم وزير العمل كميل أبو سليمان، ثم مجموعة الخبراء الذين تجمّعوا في كارنيغي برعاية ممثلة البنك الدولي حنين السيد وممثل صندوق «بلاك روك» عامر بساط، الذي يستثمر نحو مليار دولار في سندات الخزينة بالعملات الأجنبية، وسواهم… كلّهم يروّجون للوصفة نفسها بأشكال مختلفة: يجب أن نعيد هيكلة الدين العام وننفذ إصلاحات من بينها الخصخصة وأن نقترض المزيد من صندوق النقد الدولي ومن الدول المانحة لنعود إلى نمط الحياة السابق: الاستيراد والاستهلاك، وهذا لا يتأمن من دون تخصيص 10 مليارات دولار على الأقل لرسملة المصارف، أو بعبارة أخرى إعادة بعثها من بين الأموات.
34% من القدرة الشرائية للرواتب طارت وسعر الصرف ثلاثي الأبعاد
كل هذه المعطيات تأتي في سياق واحد: انخفضت قيمة الليرة في السوق الموازية عند الصرافين بقيمة 517 ليرة وسطياً، أو ما نسبته 34.4%. وبالاستناد إلى البنك الدولي، فإن هذا الأمر سيؤدي إلى زيادة معدلات الفقر إلى 52%. اللافت أن البنك الدولي استعمل هذا الأمر من أجل التسوّل على ظهر لبنان طالباً من «أصدقاء لبنان»، في الاجتماع الذي عقد أخيراً في باريس، تمويل برامج استهداف الفقر التي ثبت انعدام قيمتها وتحوّلها من برامج مؤقتة لإخراج الناس من الفقر، إلى سياسات يتسوّل على ظهرها البنك الدولي مبلغ 500 مليون دولار إضافية فضلاً عن تحوّلها إلى أدوات زبائنية بيد السياسيين: الفقير عليه أن يثبت فقره أمام السياسي وأن يثبت ولاءه للفوز ببطاقة دعم صحي أو ببطاقة تموين شهرية.
إذاً، تقلصت القدرة الشرائية بنسبة 34% لنحو 80% من المقيمين الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة. لا يهمّ طالما أن المسؤولين في لبنان، وقوى النفوذ، يخطّطون لعملية إعادة هيكلة للدين العام ترضي الدائنين المحليين والأجانب أولاً، ثم تبيع أصول الدولة ثانياً… ما يحصل على مستوى الاقتصاد ليس مهماً، وإعادة صياغة النموذج حتى لا يصاب بالمرض نفسه ليست هدفاً لأي من هؤلاء. المهم كم ستبلغ حصيلة التسوّل هذه المرّة وكيف توزّع.
اياً يكن الحال، من المهم الإشارة إلى أن غالبية الدين العام محلّي، اي محمول من جهات محليّة بنسبة تصل إلى 90%. مصرف لبنان والمصارف تحمل القسم الأكبر، فيما هناك قسم محمول من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ومؤسسة ضمان الودائع، وهناك الأجانب الذين لا تزيد حصّتهم على 10 مليارات دولار من أصل دين يقدّر أنه بلغ 90 مليار دولار في نهاية 2019.
السؤال الذي تثيره هذه الإشكالية هو الآتي: كل دولار موظّف في سندات اليوروبوندز يبلغ 40 سنتاً على الأقل، ما يعني أنه بإمكان شراء الديون الخارجية كلّها بقيمة 4 مليارات دولار، فهل يمكن التعامل مع الدين من دون وصفات خارجية، أم أن التهويل بالمجاعة يهدف حصراً إلى تكريس اللجوء للخارج؟
في الواقع، يعتقد بعض الخبراء أنه يمكن الاستغناء عن قسم كبير من الواردات، وأنه يمكن خفض أسعار الفائدة إلى الحدود الدنيا من أجل إطلاق عملية الائتمان (الإقراض للقطاع الخاص) مجدداً، فإلى جانب وجود الكابيتال كونترول، والذي تتوقع ميريل لينش أن استمراره لسنة أو سنتين أمر ممكن ولكنه يؤدي إلى تدمير المصارف اللبنانية وانعدام استدامتها، فإن تحويلات المغتربين من الخارج ستستمرّ ولو بوتيرة أكثر تباطوءاً، ما يعني أن جزءاً من التمويل متوافر للاستيراد، فضلاً عن أن مصرف لبنان التزم بتمويل 4.5 مليارات دولار للمشتقات النفطية والدواء والقمح، وهناك سيولة إضافية في السوق بقيمة 6 مليارات دولار مخزنة في المنازل ستستخدم في الوقت المناسب لشراء السلع والاستيراد وسواه.
هذا يعني أنه لن تكون هناك مجاعة. ولا ضرورة أيضاً لأن تكون هناك وصفات خارجية.
لذا يجب إجراء جردة حساب مفصلة وشاملة لكل موجودات لبنان والتزاماته ولا سيما في مصرف لبنان، ليتم تقدير الخسائر وإعادة توزيعها بشكل عادل كما يقترح الوزير السابق شربل نحاس. أما إذا كان هناك اعتقاد بأن صندوق النقد سيقرض لبنان 3 مليارات دولار ويشكّل ضمانة لتدفع الدول 10 مليارات دولار، من أجل لا شيء، فهذا اعتقاد خاطئ لأن اجتماع مثل هذه الدول مع صندوق النقد الدولي هو اصلاً قرار سياسي، وعلى افتراض أن مثل هذا القرار استثماري: ماذا يمكننا أن نعطي الدول والصندوق أرباحاً في المقابل؟
من الأولويات: ضبط الاستيراد، التعامل مع الليرة والدين
يقول رئيس المركز الاستشاري للدراسات عبد الحليم فضل الله إن الأولويات التي يفترض أن تقدّمها الحكومة على غيرها باتت واضحة ولا لبس فيها:
ــ يجب أولاً التوصّل إلى طريقة لمعالجة الدين العام لجهة إبطاء مساره وتقليص كلفته. هذا الأمر مرتبط أيضاً بعجز المالية العامة لأن الدين العام سينمو بوتيرة أسرع في ظل سيناريو تدهور الإيرادات وثبات النفقات ما يزيد العجز ويسرّع تضخّم الدين العام… لذا نحتاج إلى إجراءات جذرية وملحوظة وملموسة تؤدي إلى خفض فوري للدين العام بنسبة تتراوح بين 20% و30% عبر إجراءات داخلية قد تتضمن زيادة الضريبة على الفوائد، فرض ضريبة على الثروة، إطفاء جزء من الدين العام أو خفض الفائدة عليه…
ــ بالنسبة للقطاع المصرفي ونقص السيولة والحاجة لإعادة رسملتها، لا بد من أن تكون هناك خطّة شاملة لهذا الأمر، علماً بأن أقلّ التقديرات تشير إلى أن حاجات إعادة الرسملة تبلغ 12 مليار دولار بالحدّ الأدنى ويمكن أن تصل إلى 20 مليار دولار. يجب أن تكون هناك خطة متكاملة وفورية تنطوي على إجراءات لاستقطاب هذه الأموال من الخارج وليس منافسة السيولة المحلية عليها، علماً بأن الإجراءات على مستوى الدين العام تساعد على تحسين ميزانيات المصارف.
ــ يجب ألا نبقى أسرى التركيز على ميزان المدفوعات الذي تعدّ فوائضه وعجوزاته السنوية ظرفية، بمعنى أن التدفقات كل سنة تحدّد العجز أو الفائض فيما جزءاً كبيراً من الأموال التي تسجّل في هذا الميزان هي دين على الدولة ولا نتصرّف فيها بما يخدم الاقتصاد ويوسّعه، لذا صار مهماً التركيز على عجز الحساب الجاري عبر تدابير تقليص الاستيراد وتحريك الرسوم الجمركية بعكس اتجاه الأزمة والاستفادة من تجارب الدول لضبط الاستيراد وصولاً إلى زيادة التصدير الذي قد يتطلب وقتاً أطول.
ــ يجب تخصيص قسم من الاموال المتوافرة في لبنان لمنع إفلاس المؤسسات ودعمها مقابل الحفاظ على الوظائف، على أن يتم مواكبة هذا الأمر بإجراءات متعلقة بالحماية الاجتماعية سواء على مستوى تعويضات ضدّ البطالة وغيرها.
ــ بالنسبة لسعر صرف الليرة، فعلينا أن نقرّر إذا كنّا نريد الاستمرار بآلية الدعم ما يوجب في المقابل تحديد السياسات الاقتصادية والمالية التي تعدّ مستدامة في ظل الدعم، وإذا كنا نريد توسيع هامش التسعير فعن أي سعر وأي هوامش للدعم… كل هذه الأمور يجب أن تكون في صلب نقاشات الحكومة.