الفضائح التي فاحت من فِيهِ وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال شربل وهبة، وتضاهي الخطايا في خفّتها وإساءتها للبنان واللبنانيين، ولا تؤثّر في دول الخليج، ودرّتها المملكة العربية السعودية؛ وهي حتماً لا تعكس سقطة شخصية موتورة ممن يفترض به تمثيل مصالح لبنان ووجهه الحضاري مع العالم. بدا أن هذا الشخص لا يدرك مكانة الموقع الذي وضع فيه على حين غفلة، ولا حساسية المواقف التي أطلقها، وقبل كل ذلك وبعده، لا يدرك أصول التعاطي الديبلوماسي والإعلامي.. هكذا لا يمكن اعتبار ما خرج من فمه عثرة لسان يمكن أن تُصحّح بمزيد من التضليل والأكاذيب والنفاق الذي اتسمت به معظم ردود فعل المنظومة السياسية التي ينتمي إليها.
ليس فرداً بل منظومة
لا يمكن لعاقل أن يتصوّر للحظة أن «مسؤولاً» في منظومة سياسيّة لبلد يقبع في أسفل دَرك المجاعة، والإفلاس، والضياع، والفوضى، والهيمنة، ويتربع على عرش مؤشرات الفساد والنهب ودوس الحريات… ينبري ليتهمُ دولاً لها في رقبة بلده وشعبه الكثير الكثير، ويتنمّر عليها بمفردات أغلبُ الظنّ أنه لا يفهم مدلولاتها، ولا سياقاتها التاريخية والحضارية والسياسية، ويبرّر هيمنة ميليشيا مسلحة على القرار السيادي والوطني لبلده.. ثم يخرج من يُبرّر له بأن ما قاله مجرّد مواقف شخصية. أصلاً هل يحق لمسؤول في دولة تغرق بالنفايات والعتمة والتيه أن يتحدث عن البداوة والتحضّر؟ شربل وهبه، وما ومَن يمثل هذا الشخص، فعلوا!
بهذا المعنى، إن ما تفوّه به الوزير العبقري ليس كلاماً شخصياً. هو فردٌ في منظومة متكاملة تنتهج العبثيّة والتضليل واللعب على الشعارات والعصبيات لخدمة أغراض خبيثة وأجندات مشبوهة تناقض المصلحة الوطنية، وكلامه يكشف خبايا ما يحكي في غرف سوداء.. ولائحة العار بذكر أسمائهم تطول.
ديبلوماسيّة الولدنة
يعلّق ديبلوماسي لبناني على «درر» الحوار التلفزيوني للوزير، بالقول «إن وهبة ظنّ نفسه يثرثر في جلسة صباحيّة في ساحة بلدته، وليس في حديث على وسيلة إعلاميّة فضائية يشاهدها الملايين، وأنه، فوق ذلك، وزير خارجية مهمتهُ الأساس صونُ مصالح لبنان مع العالم، لا الدفاع عن هذا أو ذاك من المسؤولين أو الأحزاب أو الميليشيات»، كاشفاً أن لوهبه «عشرات السقطات المماثلة منذ أن كان سفيراً في إحدى دول أميركا الجنوبية، والتي تعكس شخصية خفيفة، سطحيّة، وغير مستقرّة»، مشيراً إلى أن «هذه «الميزات» هي التي أهّلته لثقة جبران باسيل فوضعه في بعبدا بصفة «مستشار شخصي» (نعم مستشار) عند الرئيس ميشال عون (الذي تبرّأ من سقطة مستشاره بتغريدة ملتبسة بدل الاعتذار)، قبل أن يلعب دور الاحتياط بعد استقالة الوزير ناصيف حتّي».
وإذ يأسف الديبلوماسي اللبناني «لما وصلت إليه حال الديبلوماسية اللبنانية صاحبة التاريخ المشرق في المحافل الدولية ورسم أجمل صورة عن لبنان»، يشير إلى أن «الضربة القاضية للعمل الديبلوماسي اللبناني جاءت على يد باسيل الذي جاهر بالدفاع عن استباحة سيادة لبنان في محافل العالم، وراح يسخّر البعثات الديبلوماسية اللبنانية خدمة لأطماعه ومشاريعه، وعلى حساب الخزينة العامة.. وكذلك مع السُنّة السيئة التي ابتدعها باسيل حين كان يذهب للقاء مسؤولين في عواصم العالم ولا يسمح لسفير لبنان فيها بحضور الاجتماعات، في تصرف أحمق وصبياني لطالما أساء إلى صورة وسمعة لبنان، والى ديبلوماسيين من خيرة السفراء».
في تقدير كثيرين إن كلام وهبه لا يستحق النقاش أو الردّ، لأسباب واعتبارات عدّة، لكن ذلك لا يلغي تنبيهه لأمور، منها أن غيرته على «الفخامة» في غير محلّها، فتياره هو من أهانَ الموقع والدور والمَقام، وحوّله إلى مادة لقِسمة اللبنانيين، وعنواناً لخلافهم، لأنه رمى بالرئاسة والفخامة لهذا العهد البائس في سوق المصالح الشخصية والعائليّة والحزبية والميليشيوية.
«لا يجوز أن تبقى علاقة لبنان بدول الخليج، والسعودية خصوصاً، محصورة بتيار يضمر العداء والشرّ، وطبقة سياسية تحترف التكاذب والنفاق وبيع الكلام والمواقف.. لبنان وعمقه العربي أكبر وأعمق وأبقى»
أما استسهاله القول بأن حزباً هو من يقرر في مسألة السلاح وليس الدولة، فمتروك للمحاكمة.. نعم المحاكمة بتهمة واضحة لا لبس فيها.
أما تذاكيه حول أصول «داعش».. فقريباً جداً، ستظهر حقائق من أوجد هذا الوحش، ومن رعاه، ومن صاغ له أجندته، وهيّأ له ظروف وإمكانات الإساءة للعرب والإسلام والدول الوطنية.. وحتماً حتماً ليسوا من قصدهم الوزير النبيه.
وتبقى نكتة وهبه السمجة عن «البدو»، فإلى كونها تكشف ضحالة ثقافته وقلّة اطلاعه على مؤشرات عالم اليوم في كل شيء… كل شيء، لا يحق، أخلاقياً وأدبياً، لمن بلده في قعر العقر أن يتحدث عن الحضارة والتقدم، بل عليه الخجل، ثم إن البداوة شرفٌ وأصالة ومروءة لا يفهمها كثيرون.
هل يحق للسعودية والخليج الغضب؟
توازياً، لا يكفي دعوة الدول العربية إلى عدم معاملة لبنان بجريرة ما يفعله السفهاء والجَهلة والموتورون والحاقدون والشعبويون.. أصلاً لبنان، بسببهم، خرج عن اهتمامات الدول التي بقيت تاريخياً إلى جانبه في كل الظروف، وفي مختلف المجالات إلى أن تحوّل دولة فاشلة يتم استهداف أمنها واستقرارها ووحدتها الاجتماعية من أراضيه، والكثير الكثير من التشاطر الكلامي والتلاعب بالشعارات من قبل أركان السلطة الفاسدة لدرجة أن البلد تحوّل إلى عبء على ساكنيه وعلى العرب والعالم.
من يتتبع مسار التباعد اللبناني المتهوّر، والمتعمّد، والخطير عن عمقه الحيوي الداعم والمساند، أي دول الخليج، يدرك أن هذه الدول لطالما واجهت الإساءات بكثير من التعالي والأصالة والمروءة والصبر، لكنَّ الدولَ لا تبني أمنها الاستراتيجي وأمنها القومي، ولا تتعامل مع قضاياها الحيوية ومسائلها السيادية على القيم فقط، بل على المصالح وموازين القوى وحسابات التأثير والفاعلية والملاءمة الداخلية في محيط إقليمي ملتهب.. وبهذا المعنى يحق للسعودية وبقية دول الخليج أن تغضب، ليس بوجه حزب الله فحسب، بل بوجه طبقة سياسيّة سمحت بتحوّل لبنان إلى ساحة لاستهداف مصالحها وأمنها وصحة شبابها وسلامة مجتمعها.
آن الأوان لرفع الصوت بأن لبنان واللبنانيين ليسوا مجبرين على دفع أثمان نزوات قلّةٍ موتورةٍ وحاقدة، ارتضت تحويل لبنان إلى منصّة لمهاجمة وتخريب الدول العربية، وليسوا مجبرين أيضاً على تلميع صورة طبقة سياسية منافقة. إزاء حفلة الجنون والتفاهة لمنظومة تمعن بتدمير علاقات لبنان، وتعميق عزلته وخطفه عن رسالته ودوره ومحيطه، وتجريده من شرعيته، ودوس مصالحه؛ لا يجوز أن تبقى علاقة لبنان بالعالم العربي، ودول الخليج تحديداً، والسعودية خصوصاً، محصورة بتيار يضمر العداء والشرّ والكيد من جهة، وطبقة سياسية تحترف، بإتقان شديد، التكاذب والنفاق وبيع الكلام والمواقف من جهة ثانية.. لبنان وعمقه العربي أكبر وأعمق وأبقى.
وقبل كل ذلك وبعده، من أيّ قَعر يُؤتى بهكذا نماذج إلى سدّة المسؤولية؟