في مطلع عهد الإستقلال أطلق الزعيم الوطني الكبير حميد فرنجية صرخةً لا تزال أصداؤها تترددُ تحت قبّة البرلمان وفي الخواطر والأذهان. تحدّث رحمه الله عن «الموظف السمسار والقاضي العبد». والمعنى واضحٌ في ذاته، وهو أن الموظف هو سمسارٌ عند المسؤول الذي عيّنه والسياسي الذي دعمه، وبالتالي هو وسيطه لدى الإدارة العامة التي عُيّن ليديرها. والقاضي هو عبدٌ عند «سيّده» الذي يقف وراء تعيينه في هذه السلطة لا ليُصدر الأحكام بإسم الشعب اللبناني وفق المعايير القانونية ومقتضيات العدالة والضمير، إنما بإسم السيّد!
وما تناهى إلينا من تلك الحِقبة أن حميد فرنجية كان يتكلّم خلال مناقشة الموازنة العامة في مجلس النواب، وقد أسهب في هذه النقطة مؤكداً أنه لا يُعمم، مشيراً إلى موظفين تعتز بهم الإدارة وقضاة يزهو بهم ويَفخر قوس المحكمة وباحات قصر العدل.
عشية إصدار دفعة من التعيينات المُفترضة في مجلس الوزراء، يَطرح السؤال ذاته وبإلحاح: أين أصبحنا بعد نحو ثلاثة أرباع القرن على تلك العبارة المُدوية التي أطلقها حميد بيك؟
الجواب نعرفه جميعاً. ومن أسفٍ أن المِلق فلت خصوصاً في مرحلة ما بعد الحرب. فالتعيينات تخضع للمحسوبيات والمصالح المعروفة لأصحاب «السلطة» سواء أكانوا في الحكم أم خارجه، في الموالاة أو في المعارضة، وطبعاً هذا لا يعني التعميم.
ولا بدّ من التوقف عند النقط الثلاث الآتية:
الأولى- قديماً كانت ثمة مداخلات في تعيين كبار الموظفين وربما كبار القضاة ولكن كان المسؤول الرفيع أو الزعيم يُرشح شخصيات من تلك التي لمعت في حقول الإدارة والقضاء والديبلوماسية والأسلاك… وقد عرفت تلك المواقع والسلطات شخصيات بارزةً جداً ما زالت كفاءاتها ومواقفها وحتى تمرّدها على الذين عيّنوها مدار حكايات تُروى بتقدير وإعتزاز. وبين هؤلاء قضاة كبار وإداريون أفذاذ وديبلوماسيون عمالقة وقضاة شجعان… وهم كثر يتعذر تعدادهم جميعاً.
الثانية- أما منذ ما بعد الحرب، وحتى اليوم، فإن أساس التعيين هو «الولاء الأعمى» على قاعدة «أمرك سِيدنا». أما الكفاءة فأمر فيه نظر. علماً أن الأوامر لا تتوقف عن حدّ، وقد ازداد هذا الوضع تفاقماً في زمن الوصاية عندما كانت عنجر تتدخل حتى في تعيين المخاتير ورؤساء وأعضاء المجالس البلدية. ناهيك بالنواب والوزراء. علماً أن بعض هذه المواقع يُشغلُ على قاعدة الإنتخاب الذي كان يُجرى صورياً بنتائج معروفة سلفاً.
الثالثة- أما الضجة المُثارة حول التعيينات المتوقعة وما يدور من مداخلات فهناك الكثير مما يُقال في شأنها، إلا أن أكثر ما يلفت هو سقوط مقولة إن جميع الوزراء مستقلون وليسوا حزبيين… وإلا كيف نفهم أن أطرافاً أطلقت تهديدات بـ«مقاطعة وزرائنا» الحكومة في حال لم تأت التعيينات وفق ما يريده أصحاب التهديد! فكيف يكون بعض الوزراء «وزراءنا» ويكونون مستقلين في آن معاً؟!.